العام
زوجي يتمنى موتي سريعًا لــكي يــؤول منـــــــــــــــزلي إليه ويمارس فيه أعمال الدجل والشعوذة
ما أكثر المشاهد التراجيدية التي تعيشها «خالصة» كل يومٍ من أيام حياتها القاسية، اجتمع عليها سرطان الثدي اللعين، وجبروت الزوج الذي نزع الله من قلبه العطف والإنسانية، فكانت كل ساعاتها حُبلى بالمآسي وطغيان الحياة وقسوة المرض. ما عادت تثق في خواطر الآمال بالخلاص، ويبدو أنها اختارت «مجلة التكوين» لتوثّق تفاصيلها الدامية بسياط العذاب، رغبةً منها في نشر معاناتها، على أمل وجود تدخّلٍ يأخذ بيدها إلى حيث الطمأنينة التي لم تذق طعمها يوما، أو يأخذ الله أمانته ويعرف الناس أن ثمة قصصًٍا في الحياة تفوق خيال مؤلفي سينما الهوليوود في أوج شطحاتهم.
التكوين- أحمد بن سيف الهنائي
نشأت هذه المرأة بين جمرٍ وأشواك، تقاذفتها رياح الحياة هي وشقيقها في سنٍّ مبكرة بعد انفصال والديها، لتنتشلهما جدتهما رغم قلة ما في اليد وقصر الحال، فأغدقت عليهما حنانا لم يعرفا كنهه قبلئذ، بيد أنها لم تُدْخِلهما المدرسة لظروفٍ غامضة في حينها، لتنضم الجدة و «خالصة» لاحقا إلى الأم التي تزوجت من جديد، إلا أن العيش في كنف أمٍ متزوجة من رجلٍ آخر لن يحقق الحياة المثالية كما هو معتاد.
لا وجود لبديلٍ آمن للخروج من هذه الحياة إلا عبر الزواج، هذا الخيار لم يكن آمناً في حقيقته، لتكتشف بعد مرور أيامٍ من زواجها أن «المنقذ» ما هو في الواقع إلا مدمن مخدرات، لا يُلِقي بالاً لأي شيء، رغم أنه من عِلية القوم وابن أحد أثرياء العاصمة، فتجد نفسها خارج نطاق الزوجية بعد أشهرٍ كابوسيةٍ، ذاقت خلالها صنوفاً من الدمار النفسي، وقد غادرها محطمة بائسة «لا تلوي على أحدٍ، ولا تأوي إلى بلد».
دون حولٍ لها ولا قوة، وجدت نفسها مضطرةً لإعالة نفسها وجَدّتها المسنة بعد طلاقها، لتقبل براتبٍ بسيط في إحدى شركات القطاع الخاص.. وتبدأ حكاية أخرى، إذ تعرفت على زوجها الحالي الذي جمعتها معه قواسم مشتركة كالفقر وسوء الطالع، فظنت أن هذا التوافق قد يغدو مصدر اطمئنانٍ لها، ورغم قلقها الكبير من فكرة الارتباط مجددا، لقيت كل الدعم والتأييد من المحيطين بها، فهي مطلقة، والمطلقة في عُرف المجتمع -قصيدةٌ بكائية- لا تجلب البهجة.
سرعان ما استرجعت قول الشاعر «رُبَّ دهرٍ بكيتُ منه فلما.. صرتُ في غيره بكيتُ عليه»، إذ عاشت ليالٍيَ قاتمة، لم تشرق فيها شمسٌ دافئة، ولم يراوح الليل مكانه، لم ينفق عليها ريالا واحدا، وتركها تقاسي آلام الجوع وحرارة «الكفوف» التي تُصيّر وجهها منفوخاً على الدوام، ودائماً ما كان يجبرها على أن تقوم بإيصاله إلى مقر عمله أيام مناوباته الليلية وأحيانا تعود به في ساعاتٍ متأخرة مما تضطر إلى ارتداء الملابس الرجالية حتى لا تتعرض للمضايقات والتحرش. لم تكن تُدرك أسباب تلك الغلظة والقسوة، حتى عرفت -ذات لحظة- أنه معاقرٌ للشعوذة والدجل بألوانٍ شتّى.
ثمانية عشرة عاما، كانت طويلةً جدا، وقاسية جدا، في رحلة معاناةٍ لا تنتهي، أنجبت خلالها أربعة من الأبناء بالتساوي بين الذكور والإناث، كانت أشبه بالميتة في لحظاتٍ كثيرة، ذلك أنها أجرت عدة عملياتٍ جراحيةٍ لمرضٍ مبهمٍ ومحير، يستخرجون من معدتها أوراما تشبه الجنين المشوّه الذي يزن 7 كيلو جرامات وأكثر، وفي كل أوقاتها لم تجد المساندة من زوجها.
جدتها الرؤوم التي مَثّلت السند الوحيد لها في حياتها تداعى عليها المرض هي الأخرى من كل صوب، لترحل عن عالمها وقد تركتها تعيش عزلةً قاتلة، وقد أحست بالقلق الكبير عليها قبل رحيلها، فسجّلتِ البيت باسمها في السجل العقاري بوزارة الإسكان حتى يكون ملاذا لها من الشتات.
تتوالى الأحداث تَتْرَى، لتفجع بوفاة أخيها، وتكتشف أنها مصابة بسرطان الثدي، فتبدأ رحلة الموت البطيء، حيث محدودية دخلها التقاعدي، ودناءة زوجها الطامع في الحصول على بيتها، وقد رفض الإنفاق عليها وعلى أبنائها، لتكمل وحدانيتها المُطلقَة عندما تُفجع بوفاة أمها.
وفي ظل تطور مرضها تم استئصال منطقة الأورام في الصدر، وبدأ الألم الشديد يشق طريقه بالانتشار في العظام، وهي تكابد آلام الجسد المُمضّْ وطمع الزوج في امتلاك المنزل، وتهديده لها بقتلها إن عمدت إلى استخراج ملكيةٍ حديثة للمنزل باسم أبنائها.
«إن تنازلتِ عن المنزل لهؤلاء الحثالة سأتركك جثةً هامدة»، هذه العبارة تتردد على مسامع الأم والأبناء كل صبحٍ وعشية، دون رحمةٍ تذكر أو مجاملةٍ لمريضةٍ تقاسي كل تلك الآلام، بل إنه يجرها من سريرها كل يوم لتطبخ له ما يشتهي من الطعام متى شاء.
كل آمال هذه المرأة في الحياة لا تعدو أن تكون سوى الحصول على فرصة نقل ملكية منزلها لآبنائها دون أن تتعرض للموت، وأن تحصل على الطلاق وتبقى آمنةً ما تبقى لها في الحياة من أيام، خصوصا وأنها أصبحت شاهدةً على ممارساته البغيضة للشعوذة والدجل وغياب الوازع الإنساني.
حفاظاً على خصوصيتها، وامتثالاً لرغبتها، اجتزأنا الكثير من التفاصيل الموجعة، فهي غارقةٌ في بكاءٍ سرمدي، لا تجد من يربت على كتفها ليطمئن بالها، وما أن يغمض لها جفنٌ حتى تطاردها الكوابيس في ليالٍ لا هناءة فيها.
الزوج يعد الأيام لدنو أجلها رغبة في امتلاك المنزل، لذلك يجتهد في الحرص على أن لا تتناول أدويتها، وكلما رآها قادرةً على الوقوف بعكازيها يهرع إلى أبنائها سائلاً باندهاشٍ وحسرة : «هي أمكم بدأت تمشي؟» لا يريد لها التعافي، بل يكرر على مسامعها شتائمه وأمنياته برحيلها في أسرع وقتٍ ممكن.
رغم المرض والألم إلا أنها تحاول الوقوف على قدميها، وتجتهد في أن تنتصر على السرطان والحياة في ذات الآن، حيث عمدت إلى مناشدة وزير التنمية الاجتماعية الموقر بدعمها اجتماعيًا، في رسالة مطولة كان مدادها الدموع وحروفها الوجع، قائلةً فيها: أنا مواطنة في منتصف العمر أمر بتجربةٍ مؤلمة وحزينة بعد إصابتي بمرض سرطان الثدي واستئصال الثديين، تلتها علاجات كيماوية متعبة أو ما يسمى بمأساة مريض السرطان مع الكيماوي، رحلتي غريبة مع المعرض من جهة، ومع البشر والأقارب وجحود زوجي وقسوته وعدم تحمله المسؤولية من جهةٍ أخرى.
وفي شرحها لمعاناتها أشارت إلى رفض زوجها لإيصالها إلى المستشفى عند المواعيد أو تلقي العلاج ضد السرطان، قائلةً أيضا بأسىً كبير عن زوجها: «كان يتمنى موتي سريعًا لكي يؤول منزلي إليه ويمارس فيه أعمال الدجل والشعوذة».
كل ما طلبته هذه المرأة من وزارة التنمية الاجتماعية هو الحصول على معاش الضمان الاجتماعي لها ولأبنائها وتوفير عاملة منزلٍ لها على كفالة الوزارة لعنايتها ورعايتها، فيما خاطبت إحدى الجمعيات الخيرية بطلب مساعدة ماديةً لبناء محلٍ تجاري ضمن مسكنها الحالي، ومساعدتها في الحصول على التراخيص الخاصة لهذا المشروع، لكي تتمكن من توفير مصدر دخلٍ لها ولأطفالها دون ذل الحاجة والسؤال، مشيرةً إلى أن جيرانها حصلوا على التراخيص الخاصة ببناء محال تجارية ضمن منازلهم السكنية، حتى هذه اللحظة لم تتلق «خالصة» استجابةً لمطالبها، ونحن بدورنا في مجلة «التكوين» نناشد أهل الخير وأصحاب اليد البيضاء في هذا الوطن الكريم بمساعدتها ونجدتها.
هذه المرأة تحتاج إلى وقفةٍ إنسانية حازمة، علّها تجد المساندة النفسية والجسدية وحق التداوي الآمن، فمن سيقف إلى جانبها موفراً لها الحماية من بطش الزوج وقهره؟ هذا السؤال موجهٌ لكل جهةٍ رسميةٍ قادرةٍ على تحقيقه، وسنقوم بإيصالهم إلى المرأة إن وَجَدت الضمانات المشروعة لعدم تعرضها إلى ما لا يحمد عقباه.