في السويقة، الرباط المدينة ثمة مكتبة منزوية في ركن قصي من أركان السويقة. المكتبة لا تبيع إلا الكتب المستعملة أو الكتب القديمة. عندما أكون في الرباط أحرص أن أزور بعض الأماكن. في الحقيقة لا أدري كيف أنقاد إليها، هكذا دون شعور، تأخذني قدمي، لابد أن أذهب، لا تكتمل الزيارة إلا بتلك الأماكن. رغبة غامضة تجتاحني وأنا هناك. أعترف بأني ضعيف أمام تلك الرغبات حتى لو بصة بسيطة لتلك الأماكن الأثيرة.
ذهبت إلي المكتبة وكان وقت الظهيرة، آنذاك. وجدتها مشرعة الأبواب دون أن يكون أحدٌ هناك. تذكرت أن صديقي لا يغلق باب المكتبة أبداً، إلا في آخر الليل عندما يذهب للبيت. ربما كان ذاهبا للمسجد في ذلك الوقت، أو ربما ذهب لتناول الغداء، أو ذهب لأي سببٍ آخر. جلست على مقعد خال في فم المكتبة، في انتظار صديقي أن يأتي. كانت الكتب تتوزع على المدخل، وضعت فوق طاولات وبعضها وضعت في سلال سعفية صغيرة. طالت فترة انتظاري، قرأت خلالها الكثير من العناوين، وخلالها جاء من يسأل عن صاحب المكتبة الذي يعرفونه تماماً. جاء صديقي وسلم عليّ بحرارة كعادتنا عندما نلتقي بعد سنوات. قلت له لا أبحث عن كتاب أو عنوان معين، فقط جيئت لرؤيتك والسلام عليك. تحادثنا كثيراً وضحكنا كثيراً. وعندما استأذنت للانصراف، طلب مني أن أنتظر، وكأنه تذكر شيئا يريد أن يقوله. لكنه اندس داخل المكتبة، وعندما عاد، جاء لي بكتاب. قال : خذه ولن تندم، وستظل تتذكرني به. هو يعرف بأني لن أندم طبعاً. كيف أندم وهو يعرف ماذا أريد.
ذهبت إلى أقرب مقهى في شارع محمد الخامس. مقهى الكوميديا. جلست، وطلبت قهوة. ثم شرعت في تصفح ذلك الكتاب، أقلب صفحاته، لا أنوي القراءة.
قلت في نفسي لا يمكن الانشغال بشيء آخر غير الشارع، فقط أريد تأمل نهر الشارع الذي بدأ يتدفق ويفيض جوانبه. لا أملك إلا الانشغال بالشارع وجماليته، كيف لهذا السحر الذي تراه أمامك، وأنت مشغول بغيره.
لكني دون شعور رحت أقلب صفحات الكتاب وأتوقف مع عناوينه التي أغوتني. ساعتها تمنيت لو كان قلم رصاص معي. كانت صفحات الكتاب مليئة بالخطوط والكلمات التي كتبت على هوامش الصفحات، كم من فكرة وملاحظة راودتني وتمنيت لو كتبتها في الهامش. كل ذلك كان يدور في خيالي. لكن وأنا أقرأ الكتاب، أكتشف خطوطا ضعيفة غير مرئية كتبت تحت بعض الكلمات، رأيت ملاحظات وشروحات كتبت على الهوامش، لكنها بخطوط ضعيفة، غير واضحة. ساعتها تخيلت صاحب الكتاب، هل هو الذي باعه للمكتبة، هل هذه المكتبة هي المحطة الأولى له ؟ أم شق طريقاً طويلا وتوقف في محطات كثيرة، ريثما وصل إلى مكتبة صديقي؟ هل من قرأه، شخص كبير في السن، يلبس نظارة سميكة، أم هو شاب شغوف ومولع بالكتب؟ أو طالب في جامعة، كان يحضر لامتحان؟ تراءت لي صور ووجوه كثيرة علي صفحات الكتاب.
لم أرفع راسي عن الكتاب، ولم أشاهد الشارع، تركته، هو وحيواته.
الكتاب كان يتحدث عن بعض المدن التي زارها الكاتب. يصف المدن والشوارع ، المكتبات، البسطات، الأكشاك التي تبيع الجرائد والكتب، يصفها بشكل دقيق، حتى وقت وصول كل صحيفة في الصباح الباكر، وأين توضع كل صحيفة في مكان خاص لها. أماكن الدوريات والكتب، أماكنها لا تتغير أبداً. يتحدث عن الباعة الذين يتبادلون على الأكشاك، وأوقات دوامهم، وأساميهم وأشكالهم وملابسهم. يتكلم عن رواد المقاهي، ويقسمها بين مقاهي للمتقاعدين، ومقاهي للمراهقين، ومقاهي للمتعة. حتى من يجلس في الصفوف الأولى لتلك المقاهي، والمقاعد التي تحجز بشكل دائم. الكتاب يتحدث عن المباني وتاريخ تشيدها، والمهندس الذي صمم المدينة وشوارعها. ثم يتجه إلى وصف الشوارع الخلفية للمدينة. ووقت الذروة، ومتي تأتي سيارة الخبز، ومتى تأتي سيارة الحليب. ثم يهبط ويتكلم عن قاع المدينة وروادها الليليون، والسكارى والمحششين، وبائعات الهواء. لم يترك شيئا إلا وذكره.
رأيتني أتجول في تلك المدن .. أطرق الأبواب .. أتصفح كتبا وصحفا .. أتناول أخرى من البسطات المنتشرة على الأرصفة .. في مدخل المكتبات رأيتني أقف أشاهد أعمدة مرتفعة من الكتب. لافتات مكتوبة بخطوط مختلفة لشوارع بأسماء أشخاص ونبذة تعريفية عنهم .. رأيتني أتحدث مع سائق تاكسي بلغة هو لا يفهما.. في شارع مزدحم كنت أسير هكذا دون هدف.
يا إلهي .. كل شيء .. كل شيء. لم بق شيء إلا وقاله.
لا أدري متى أحضر النادل القهوة .. وضعت الكتاب جانبا .. وعدت أحدق في الشارع وأرتشف من فنجان القهوة.