مقالات
موسم الخيرات آتٍ… كيف نستثمره؟
فوزي بن يونس بن حديد
حلّ علينا وعلى الأمّة الإسلامية شهر رمضان المبارك، وهو شهرٌ الصّيام والتقرّب إلى الله بأنواع القربات، شهرُ القرآن بدليل قوله تعالى: «شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان»، شهرٌ تسبح فيه روح المؤمن في ملكوت الله، وتتغذى من رياحينه، يحمل معه الخيرات والبركات، وينفخ فينا روح مقاومة الجوع والشهوات، «فمن شهد منكم الشهر فليصمه» إلا من كان مريضا أو على سفر، فيجوز له الإفطار رفعًا للمشقة والمعاناة التي يتكبّدها الإنسان، إنها الرحمة في أتمّ معانيها، كما أنه فرصةٌ للمخطئين أن يفرشوا ذنوبهم وسيئاتهم ويحاسبوا النفس الأمّارة بالسوء التي كانت تموج وتسرح وتمرح قبل حلول الشهر الكريم بالمعاصي، وأن يؤوب الناس ويتوبوا إلى الله ويطلبوا المغفرة منه.
ولكن قبل الإقدام والتفكير في الصيام، على المؤمن أن يقف وقفة صادقة مع نفسه، ما هو الاستعداد الأمثل لاستقبال هذا الضيف العزيز؟ يبدو لي أن الاستعداد النفسي هو الأهمّ على الإطلاق لأنه يجعل النفس تتقبّل الواقع وتتكيّف مع الحدث الجديد، وقد ساد اعتقاد خاطئ عند المسلمين أن الصيام في النصف الثاني من شهر شعبان مكروه وينبغي على المسلم أن يكثر من زاد الأكل استعدادا لصيام رمضان والحال أن العكس هو الصحيح، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان أكثر صيامه في شعبان لما روي عنه من أحاديث تبيّن أن الصيام في شعبان وهو الشهر السابق لرمضان محبوبٌ ومسنونٌ للاستعداد لرمضان، وهو جانب من جوانب الاستعداد النفسي المطلوب، ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا شهر رمضان وما رأيته أكثر صياما منه في شعبان» وفي الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: « ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان» وفي رواية أخرى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: « ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في شهر أكثر صياما منه في شعبان كان يصومه إلا قليلا بل كان يصومه كله»، فكل هذه الأدلة تعلّم الأمة كيف تستقبل الشهر العظيم من خلال الاستعداد النفسي والبدني.
لكن ما يحصل اليوم أمرٌ ينده له الجبين ويحزّ في النفس أن المسلمين تغيّرت أحوالهم وتبدّلت، وهم يستقبلون رمضان على وقع قلوب شابتها أمراض وأدران، إذ كيف يستقبل المسلم رمضان وفي قلبه حقدٌ على فلان وحسدٌ على فلان، ويكذب على هذا وينافق مع هذا ويجامل آخر، بل ويتعامل بربا أو يشرب دخانا في ليل رمضان أو يجعله وجبة مع الإفطار، أو يسلك سلوكا خبيثا، كل ذلك لا ينفع مع حلول الضيف الكريم، فلا بدّ أن ينتبه المسلم أولا ويغسل نفسه من الموبقات والكبائر والدّنس والدّرن العالق به، ويصفّي قلبه وينقّيه من هذه الشرور ونفسه الغَرور وغيرها من المعاصي، ثم يغتسل من النجاسة ويهيّئ نفسه لاستقبال الشهر الكريم استقبالا يليق به، استقبالا فيه استعداد نفسي وبدني لتقبّل المشقة التي سيلقاها وهو يستطيع تحمّلها كبحًا للشهوات ومنعًا لأي مخالفة قد تحدث في رمضان وتكلفه خسارة كبيرة.
إنه مشروع استثماري من الدرجة العالية، يعقد صفقة مع نفسه أولا بأن يعلّمها أصول التربية الروحانية في رمضان، ويرطّب لسانه بذكر الله، ويوطّنه على التسبيح والتهليل والتكبير وقراءة القرآن، ويتقرّب إلى الله بالنوافل وجميع أنواع القربات، ولا ننسى صلة الأرحام والتصدّق على الفقراء والمحتاجين والمساكين، ولا نعقد صفقة مع الشيطان بالتخمة في الأكل والنوم والسّهر في المقاهي إلى مطلع الفجر، ثم نعقد العزم مرة أخرى على أن نقف وقفة أخرى مع الضيف المبجل على كل ضيف، ونغرس في نفوسنا أصول الضيافة التي يستحقها، من أوله إلى آخره، لأنه مما يؤسف له حقّا هو الاستقبال الكبير في أوّله فتجد الجوامع ملأى بالزوار والمصلين وقرّاء القرآن الكريم، وما أن ينقضي الأسبوع الأول أو الثلث الأول حتى تجد الناس قد بدؤوا في الانسحاب وكأنّ الشيطان ينكل بهم ويستدرجهم مرة أخرى نحو الدنيا وملذاتها رغم أن الأجر يتضاعف كلما انتصفت أيامه وبدأ في وداعنا، ويخرجهم من النور الذي كانوا يستضيئون به، هوى في أنفسهم وابتعادا عن الالتزام بما أمر المولى عز وجل.
انتبه أخي الصائم، إنه رمضان شهر الصيام والقيام، شهر ليس ككل الشهور، لا يقبل منك تكاسلا أو ارتدادا، يربّي النفس على الطاعة والاستسلام لأمر الله والخضوع والخنوع شكرا لله تبارك وتعالى على نعمة هذا الشهر ونفحاته الكبرى التي تخرجك من الظلمات إلى النفحات والبركات، لا تجعل الاستقبال مبتورا أو منقوصا أو محتشما بل أقبلْ بكل عزيمة وإصرار وتحدٍّ من أجل الرقي بنفسك إلى مصافِّ الملائكة المقربين ومن أجل أن تكون من الذين يدخلون باب الريان الذي خصصه المولى سبحانه وتعالى للصائمين ولا يدخل منه غيرهم من المؤمنين، أولئك الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله من أجل أن تكون لهم مكانة عظيمة ومشرّفة عند الملائكة المقربين.
انتبه إنه رمضان الشهر الذي ذكر فيه القرآن، تشريفا له وتعظيما لشأنه ومكانته عند المسلمين الذين يفهمون حقيقته، ولسيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، نموذج رائع لهذا النوع من الاستقبال، فليس التنويع في موائد الطعام والإسراف والتبذير هنا وهناك عنوان الشرف في رمضان بل حبس النفس عنها والتقيد بما أمر المولى عز وجل وما أمر رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وليس السهر في المقاهي إلى مطلع الفجر والعبث والمجون يمكن أن يكفّر السيئات في رمضان بل من فعل ذلك فقد انتهك حرمة الشهر ولو كان ما يمارسه ليلا، ولا تجعل نفسك تعبث بأفكارك فتخرجك من عباءة الإيمان، إلى وحل الفجور والطغيان، فتنساق نفسك مرة أخرى إلى الشهوات، كن رصينا في معاملاتك، وأكثر من النوافل والطاعات وابتعد عن مشاهدة المسلسلات والأفلام فإنها بليّة هذا الزمان، وداوم على ذكر الله وعلى الصالحات التي تنفعك في أخراك، فلنترك الأعمال الجاهلية ولنسارع إلى تلبية نداء الروح لننجو من عذاب الله ونحطّ الرحال في رحاب هذا الشهر المبارك.
لنتعلم الدرس من رمضان، فهو خير معلّم ومدرّب للنفس، لأنه شهر يوطّن الإنسان ويجبره على تغيير نمطه في الحياة، واكتشاف الجانب الإيجابي في شخصه، والتركيز على الخير في معاملاته، والبحث عن مواطن الضعف وإصلاحها، والبعد عن كل ما يوجع النفس وهواها، والتحلي بالأخلاق النبوية الشريفة التي ربى رسولنا الكريم صلى الله عليه أصحابه وتبناها من بعدهم أولياء الله الصالحين الذين فقهوا الحياة ومارسوا العبادات وطقوسها على الوجه الأكمل ونالوا بالتالي رضا الله في الدنيا والآخرة، تلك هي المنفعة التي يجنيها الإنسان من هذا الضيف الكريم الذي يمرّ سريعا على الإنسان ولا تبقى إلا آثاره ثمارا يانعة طيبة الرائحة تتجلى في النور الذي يمنحه المولى تبارك وتعالى لمثل هؤلاء الذين استضاؤوا بنور الله عز وجل.