العام
أشرعة ٢٣ يوليو في موانئ الإمبراطورية من جديد
كان عسكريا في قلعة جواذر قبل أن تغير سارية قلعة سلطان بن أحمد رايتها الحمراء وتتسلم باكستان عهدة سلطان بن أحمد المعمدة بالدم والتضحيات.
وفي لحظة توافقات رآها مؤلمة رفض العسكري عبيد مشاركة زملائه في إنزال الراية العمانية من السارية.
وحين ذكروه بالطاعية التي لا تناقش، تثاقل في مد يده إلى بندقيته المعلقة على الوتد ليمتشقها ويغادر القلعة ككل الذين غادروا.
حمود بن سالم السيابي
صرخوا في وجهه فقام إلى بندقيته وبدلا من أن يتناولها انتزعها مع الوتد على أمل أن يعود يوما ليغرسه وعلى نفس الجدار شاء من شاء وأبى من أبى، وإن لم يستطع فسيثبته على جدار خيمة سيشتريها يوما في جواذر، وإن حالت الظروف ضده فسيزرع الوتد في مقصورته في عُمان لعل الحياة ستدب في الوتد فيورق ويكبر ويتحول إلى شجرة شامخة سيحتطبها التاريخ يوما ليصنع منها سفنا أو عربات مدافع أو سيقطع أغصانها أوتدة للمحازم والبنادق وجحال الماء.
ودارت الأيام وجرت الرياح بما اشتهت سفائنه فاستقل مركبا متجها إلى وديعة سلطان بن أحمد ومعه ابنه شيخان والوتد المنزوع من القلعة.
كانت زوجته غنيمة حاملا ومع ذلك تركها بعد أن أوصى بها أهله وأهلها، فاستوى على المركب العابر لليم الأزرق باتجاه جواذر ليبقى الخط الملاحي نشطا على الدوام بين عاصمة الإمبراطورية والأطراف.
وكان شيخان عكس أبيه فهو يسافر بلا خسارات تاريخية ولا ضغوطات نفسية ولا التزامات مع جواذر ولا وعود مع القلعة ولا أقسام عليه أن يبر بها مع راية السارية.
لقد سافر شيخان مع أبيه من أجل حلم صغير لكي يباهي أبناء بلدته بأنه سيركب البحر وأنه سيعود من هناك بسيكل كسيكل جاره الذي اشتراه له والده من بقايا روبياته لرحلة الهند.
وحين استوى على ظهر المركب كان شيخان يتعرف لأول مرة على معادلة الأحجام والمسافات حين رأى مسقط الكبيرة جدًّا تبتعد فتصغر بيوتها الشامخة بل وتغطس في البحر، بينما جواذر الصغيرة جدا تكبر مع اقتراب المركب وتتضخم قلعتها السلطانية مع كل موجة يعبرها.
وكان العلم الباكستاني الأخضر على سارية القلعة يخفق محدثا الكثير من الألم والكآبة في قلب أبيه القابض على جمر التاريخ.
إلا أن موجة كبيرة كالجبل أرجعت المركب إلى الخلف واختلت معها معادلة الأحجام والمسافات وحالت دون اشتهائه في الرسو، فابتعدت جواذر لتصغر من جديد وكأن البحر يظهر أمارات غضبه على انفصال جواذر عن عمان، وكأن قلعة سلطان بن أحمد تنتفض لتغيُّرِ لون رايتها على السارية.
وكانت صيحات الركاب آخر الأصوات التي تناهت إلى مسامعه.
وكان وجه أبيه المهشم والدم الذي يثعب منه والوتد الملتحم بعروق يديه آخر العهد بملامح أبيه، فلعل القسم الذي أقسمه والده بزرع الوتد مجددا في جواذر ها هو يبر به ليموت هنا ويدفن هنا ومعه الوتد، بل ليتحول هو الوتد في الأديم الجواذري.
لقد تحقق حلم عبيد بزرع الوتد في أطراف الإمبراطورية بينما شيخان الذي جاء من أجل السيكل خسر أباه ووتده وحلمه.
تصايحت جواذر على غرق المركب ووري التراب من رحل وعلى رأسهم عبيد ووتده.
وبعد أيام وجد شيخان نفسه ممددا على سرير المستوصف الصغير وحوله الأطباء وطاقم التمريض وهو لا يعرف من هو وما اسمه وما اسم أبيه.
أما أبناء قريته في عُمان فقد استقبلوا نبأ جنوح المركب وغرق جميع من كان عليه بالكثير من الحزن فأقاموا عزاء لعبيد وابنه شيخان وفقدت أمه غنيمة المفجوعة بالزوج والابن عقلها وضعف بصرها الذي ابيضّ لكثرة البكاء فوضعت حملها قبل أوانه إلا أن العناية لطفت بالمولود فخرج سليما معافى وأسمته خلفان كما كان عبيد ينوي أن يسميه.
ورغم أن البلدة أقامت عزاء لعبيد وابنه شيخان، إلا أن شيخان لم يكن بين الغرقى فهو الناجي الوحيد بل الميت الحي بعد أن أفقدته الصدمة القدرة على تذكر ما حدث له ولأبيه، ولماذا جاء في الأساس إلى هنا؟ ومع من جاء؟.
وتحت شرشف أبيض بدا بعد أيام يفرك إبهام قدمه اليمنى مع الإصبع الذي يجاوره وأن شفتيه الجافتين والمقرحتين بملح البحر تتوسلان من يسقيه
لم يكن لديه ما يثبت هويته واسمه وجنسيته فقد ابتلع الموج كل شيء، فأشفق عليه أحد عمال المستوصف ويدعى رحيم خان فاحتضنه ومنحه اسم خان على اسم أبيه فأصبح شيخان يحمل اسم خان رحيم خان.
وبعد شهور من العلاج غادر المستوصف إلى بيت أبيه الجديد ليقاسم أسرة رحيم خان البيت المكون من غرفتين وحوش تتوسطه نخلة باسقة.
أتقن شيخان اللغة البلوشية ودرس مع إخوانه من أبيه الجديد، وحصل كنتيجة لتفوقه على بعثة لدراسة الطب في كراتشي وأكمل فترة التجنيد الإلزامي كمجند في الجيش الباكستاني ثم التحق بمستوصف جواذر وهو المستوصف الذي كتب الله له فيه الحياة.
وفي كل مرة يعود فيها إلى بيت أبيه رحيم في جواذر كان يطيل النظر إلى النخلة التي تتوسط الحوش فيطلب من زوجة أبيه أو أمه كما يناديها أن تضع «كرفايته» تحت النخلة هربا من صداع المكيف.
وكلما دخل غرفته ليتناول قميصه المعلق في الوتد كان يتشبث بالوتد لدرجة التحفز لانتزاعه من مكانه دون أن يعرف سر تعلقه بالنخلة والوتد.
وفي ليلة ظلماء أفاق على صراخ أمه أو زوجة أبيه تستغيثه بأن يدرك أباه، فهب كالمجنون مسرعا من تحت نخلته التي تركها تسكب برودتها على الهزيع الأخير من نومه.
تفحص الضغط فكان نازلا لدرجة مقلقة والشفاه مزرقة والنبض يشير إلى اقتراب النهايات فاستدعى الإسعاف على عجل فتم إسعافه من مؤشرات جلطة قوية. وبعد أيام من العلاج والمتابعة في المستوصف تماثل رحيم للشفاء.
وفي جلسة ود بين الاثنين سأله رحيم خان عن سر تمسكه بالنوم تحت نخلة البيت فرد خان بأنه لا يعرف سببا لذلك ولكنه يحب تلك النخلة ويجد راحة في النوم تحتها.
سأله رحيم خان أن جواذر بها آلاف النخيل فهل له نفس الشعور تجاهها فأجاب خان بأن نخلة حوش البيت وحدها التي تستأثر بحبه، بل إنه يراها مختلفة عن بقية النخل وكذلك ثمرها، وأنه يراها في النوم ويرى الأماكن التي زرعت فيها وهي مجرد فسيلة.
قال رحيم هي كذلك يا بني إنها ليست من نخيل جواذر بل هي فسيلة جاءت مع مسافر من عُمان أيام كانت جواذر تحت الراية البوسعيدية الحمراء فزرعها ذلك العماني بيده في بيتنا الذي كان بيته.
لقد ابتلي ذلك العماني بمرض فتوفاه الله فكتب والي جواذر لورثته في عُمان عن موت قريبهم وأنه يملك بيتا وعليهم أن يأتوا لتسلمه أو التصرف فيه، فطلب الورثة من أحد معارفهم بيعه وإرسال المال إلى عُمان فكان البيت من نصيبي بعد أن اشتريته من وكيل الورثة.
ازداد تعلق شيخان بالنخلة وبدأ يكثر القراءة عن عُمان موطن النخلة وعن العمانيين الذين كانوا زراعها هنا.
وفي الثالث والعشرين من يوليو عام ١٩٧٠ كان أبوه رحيم خان في السوق حين توالت الأخبار عن تولي حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم مقاليد الأمور خلفا لأبيه الذي شهد عهده انفصال جواذر عن عُمان.
كانت جواذر فرحة للحدث رغم أنها لا تعرف السلطان الجديد إلا أن الله إذا أحبّ عبدا حببه في خلقه.
كان الأب رحيم خان مشغولًا بما حدث في عُمان بينما ابنه بالتبني أو الدكتور خان لم يشاطر أباه نفس الاهتمام فلم يعش الزمن العماني في جواذر، فقد انقطع بفعل الحادث عن وطنه وجذوره وثقافته بل وحتى عن مذهب أبيه.
وجاء أباه صبيحة صيف جواذري حار ليبلغه بأنه تلقى دعوة لحضور مؤتمر طبي في مسقط وما إذا كان أبوه يود السفر معه ليجدّد ذكرياته مع الزمن العماني ورجاله فهلل الأب فرحا برؤية العمانيين من جديد ولكن هذه المرة في أرضهم وفي عاصمة الإمبراطورية العمانية.
وبعد أيام كانت طائرة الخطوط الجوية الباكستانية تهبط على مدرج مطار السيب الدولي لينزل شيخ جواذري يقترب من الثمانين وخلفه ابنه بالتبني خان رحيم خان ليصافح الكهل وجوها أحبّها ويصافح الابن زمنا انبتَّ عنه رغم أنه ابن مشيمته ونخيله وسواقيه.
اصطحبهم خميس مندوب الجهة الصحية المنظمة للمؤتمر إلى فندق الانتركونتننتال في الصاروج وقد اخترقا شوارع جميلة مطرزة بحواف من النخل والعشب وتوالت مدن وأحياء نابضة بالعصر؟؟؟.
كانت عُمان الحديثة مختلفة تماما عن الصور التي تصل، وكانت تسابق نفسها وزمنها لتتفوق على نفسها وزمنها؟؟؟.
مرا بشوارع ومدن وبنايات وفنادق ومصارف وجوامع والكثير من مفردات الحياة الحديثة.
وكان كل شبر يمر يعقبه شبر أفضل منه فعاصمة الإمبراطورية تليق بها هذه الاستحقاقات.
وبعد استراحة في غرفتهما بالانتركونتننتال طلبا من خميس أخذهما للسوق فمرا بمطاعم لها رائحة جواذر وطالت الأسماع مفردات للغة بلوشية قحة، ووجدا وجوها من باكستان يجرون عربات من الخشب والكثير من الجنسيات باعة ومشترين.
أصر خان على شراء عدة دشاديش عمانية وكميم ومصار وكانت المفاجأة أن يدخل قاعة المؤتمر يوم الافتتاح بدشداشة بيضاء وقد اعتمَّ بمصرٍّ تولى خميس المندوب الصحي لفه على رأسه.
تبودلت الكلمات والأبحاث عن التحديات الصحية الخاصة بأمراض دول المحيط الهندي وأدلى خان بدلوه فيها فكان بحثه محط أنظار الجميع وعدَّ بين أفضل بحوث المؤتمر.
وبينما انفض سامر المؤتمر وغادر المشاركون إلى دولهم استأذن خان من الجهة المضيفة لأن يبقى عدة أيام في عمان على حسابه ليشبع أبوه من عاصمة الإمبراطورية كونه من محبيها وأحد رعاياها الذي ما يزال يرى نفسه عمانيا ويتحسر على طي الزمن العماني.
توثقت العلاقة بين خان ومندوب الجهة الصحية بسرعة فعزم خميس خان وأباه لزيارة بلدته في الداخلية فقبلا الدعوة بحماس.
أنهى خان ووالده إفطارهما في الانتركونتننتال على عجل، فسيارة خميس «الداتسن لوريل» قد احترت ماكينتها من الانتظار.
جلس الكهل رحيم بجوار خميس ليكون أقرب إلى «الكنديشن» بينما الدكتور خان في الكرسي الخلفي ينثر طوال المشوار أسئلته بالإنجليزية دونما حاجة ليترجمها إلى البلوشية لأبيه الذي حصد من سنواته بالعمل في مستوصف جواذر ما يساعده على الفهم.
اقتربت بلدة خميس ومعها عبق النخل وألوان العذوق ورائحة الطين المبلل بفيضان السواقي وصخب «صراريخ» القيظ ما جعلت الدكتور خان يحن لنخلة حوش جواذر ويعيش في اضطراب وعدم توازن بين نخلة جواذر ونخيل بلدة خميس.
توقفت السيارة عند آخر مكان تبلغه في البلدة فترجلوا لتحتويهم الدروب فكان خان يرطن بالبلوشية لأبيه مفاتحا إياه لأول مرة بأن مثل هذه الدروب تراوده دومًا في الحلم وتتكرر دون تفسير وها هي اليوم تتفسر.
التقاهم في الطريق مبروك أحد رجال البلدة فسلم على خميس وبعد المصافحة وأخذ العلوم قدم خميس ضيفيه لمبروك بأن هذا رحيم خان وهذا ابنه الدكتور خان رحيم خان.
ابتسم خميس وهو يتساءل «كيه خلفان مو غيَّر اسمه إلى خان»؟ ومن متى صار دكتور؟
فقال خميس وما علاقة الدكتور خان بخلفان؟.
فقال خميس «بعدني فِيِّ سمع وبصر وأعرف الأوادم ما أتغبَّى».
ضحك الجميع بعد أن ترجم لهم خميس هذه الدعابة العابرة لمبروك وواصلوا الدرب الذي يتكرر في حلم خان كثيرا.
وفي السبلة كان الكل هناك في انتظار ضيوف خميس، وكانت السبلة عامرة بالذي «يخدم» القهوة في هذه الزاوية والذي «يسفُّ» في تلك القرنة بينما يحمل ثالت «قبص خوص» أصفر تحت إبطه، وبين لحظة وأخرى «يتعُّ» خوصة ليقلدها بين أصابعه فيطول «السرد».
كانت المشاهد لافتة لرحيم خان فقد أعادته لزمن العمانيين في جواذر قبل إنزال الراية من السارية، بينما كانت موجعة للدكتور خان فهي تشده إلى حالة طبية لا يفهمها ودوار لا يعرف سببه.
جاءت «الفوالة» رطبات من نخيل مقصورة وقف السبلة وصحن موز تم تقطيعه إلى قطع وصحن بوت.
وكلما وضع حبة رطب زاد وجعه، وإذا قشر قطعة موز ازداد الصداع فتناول هبشة من حبات البوت فازداد تسربها من يديه لكثرة فركها بين الأصابع.
دارت «صحلة الغسول» ووقف بعدها «المغنِّم» في وسط السبلة يسكب فناجين كالجمر فقد «صُلِفَتْ» للتو من دلة «البرام».
كان خان يستزيد فنجانا بعد آخر لعله يكسر الصداع إلا أن الصداع يزداد بينما المغنِّم يطيل التركيز في ملامح الدكتور الذي لا يشبع من شرب القهوة فيقارن شدة الشبه بينه وبين خلفان بن حياة عبيد.
عاد المغنم إلى بيت خالته زوجة حياة عبيد المكلومة في غرق زوجها عبيد وابنها شيخان.
قال المغنم لخالته إن خميس جاء إلى السبلة بضيوف وأن أحدهم يشبه خلفان «مقطعنه على حصاه».
ضحك من بالبيت إلا خالته غنيمة التي بكت بكاء مرًّا.
دخل فجأة مبروك وقال لغنيمة كأنه خلفان رجع من البندر، فقال المغنم ذلك ليس خلفان بل جواذري نزل ضيفا على خميس وأنه يشبهه.
علت الدهشة مبروك وهو يردد سبحان الله فكرته خلفان يوم سلمت عليه ولكن «سبعة يخلقوا من طينة».
ازداد بكاء غنيمة فبدأ قلبها يحدثها ان هذا الضيف هو ابنها الأول شيخان وأنه لم يمت كما قيل عنه.
أصرت غنيمة على رؤية الضيف فنهرها الحاضرون وهم يزجرونها بألسنتهم مو تريدي تفضحينا؟.
اندفعت بكل قوة صوب سبلة الحارة غير آبهة بأحد فقبضها اثنان عند باب السبلة فأعاداها بالقوة وهما يهللان ويكبران ويحوقلان لقد «جاءتها زغفة».
اقترحوا عليها لتهدئة روعها أن يعزموه على «ريوق» بكرة في بيتهم وبإمكانها أن تراه من دريشة الصفة المفتوحة على حوش البيت.
انتظرت غنيمة مجيئه بكرة على أحر من الجمر بينما انشغل خميس وضيفاه بين سبلة وسبلة وفوالة وفوالة.
أذن الظهر واصطف رحيم خان وابنه الدكتور مع المصلين وقد بسط الناس أيديهم إلا الضيفين فصليا كما اعتادا.
كادت «الوقبة» حيث توضأ أن تضيق به فقد انتابته حالة دوار، وغادر «الوقبة» على عجل ليرى جذوع المسجد كالرماح تلسعه وتنخر ذاكرته.
وجاء «ريوق بكرة» ولم يكن كريوق جواذر فخلا من خبز التنور و«الدال أو الكيما» وليس فيه «كرواسان» الانتركونتننتال ولا عصير «الجريب فروت» في «بوفيه الإفطار».
لقد أعدت غنيمة لضيفيها «بوبر بالحليب مع خبز الرخال وملة دنجو وملة مرق لحم من بقايا مشاكيك العيد وخبزة اللجن».
كان الكهل رحيم يأكل باستمتاع بينما الدكتور خان يزداد صداعا للمشاهد والنكهة والرائحة وتفاصيل المكان.
وقبل أن ينهض الضيفان ليغسلا من «السماور» دوت صرخة غنيمة في السماء فاندفعت لتحضن الدكتور خان وهي تبكي «مضنوني شيخان أبوي شيخان حبابي شيخان» أنت حي أنت رجعت؟.
كان رحيم مذهولا والمرأة تضم خان بكل قوتها وتهزه هزا بينما خان يبكي ويرطن بلغة بلوشية مأخوذا بدهشة تصرف المرأة وانفعالاتها.
وكان متأرجحا بين قوة خفية تشده للتجاوب معها وبين الحياء من الانجرار وراء مشاعره.
تدخل الحاضرون لفض الاشتباك ولتهدئة المرأة بينما الدكتور يتفصد عرقا من شدة هز غنيمة له
وهو يطيل النظر لهذه المرأة التي تتوهم أنه ابنها بل وبدأ هو يقاربها بالوجوه التي تومض في الدروب المتكررة في الحلم فكانت هي بين أجمل الوجوه.
ازدحم البيت بالناس وتم استدعاء ابنها خلفان المسافر إلى البندر لإبلاغه بأن شيخان الذي قيل إنه غرق ومات لم يمت وأن الدكتور خان إنما هو نفسه شيخان بن عبيد الذي سافر إلى جواذر من أجل شراء السيكل.
هدأ الجو قليلا فتوجهت الاتهامات صوب الكهل الذي أخفى موت عبيد ولم يفصح عن نجاة شيخان طوال هذه السنين.
لاذ خان أو كما يناديه الغاضبون في البيت باسم شيخان بالصمت تجاه الأسئلة التي تمطره وتمطر أباه فلم يكن بمقدوره الرد ولا أن يدافع عن أبيه فلا هو بحانق عليه فقد رباه وعلمه ولا هو براضٍ عنه إذا كان قد تعمد إخفاء الحقيقة وإلغاء ذاكرته بدلا من أن ينشطها.
وتحول خميس إلى ترجمان بين الحضور والكهل رحيم خان.
أقسم خان بأنه لم يكن يعرف أن الولد الذي عالجه ورباه وعلمه وأعطاه اسم ابنه خان الذي توفي بالحمى هو نفسه ابنهم شيخان.
وأن كل ما يعرفه أن سفينة ملاحية تعمل على خطوط الملاحة بين موانئ الخليج وموانئ شبه القارة الهندية قد غرقت قبالة السواحل الجواذرية وعليها العديد من الجنسيات فكان هذا الولد بين الناجين وربما الناجي الوحيد إلا أنه فقد ذاكرته فلم يعرف شيئا عن أمسه.
وقال الكهل لقد رابني تعلق الطفل بنخلة مزروعة في حوش البيت فحكيت له قصتها لعلي أستشف من ردود فعله شيئا فيشرح لي قصة مجيئه فيساعدني بأي معلومات عنه قبل أن يتوفاني الله ومعي أسراري.
إلا أن هذا الولد لم يفصح عن شيء وظل ارتباطه بنخلة الحوش مجرد رباط حنيني فقط، ولم يتطور لأسئلة من قبله لأسرد بقية التفاصيل فتركته لحال سبيله فقد نسي الماضي ولم أرغب في تعذيبه بنبش ربما يؤلمه.
وكان من المقرر أن تدوم زيارة رحيم خان والدكتور خان لبلدة خميس ليومين فقط يعودان منها مباشرة إلى المطار فقد سبق وأنهيا إقامتهما بالانتركونتننتال، إلا أن زيارتهما امتدت لأكثر من أسبوعين.
وكان رحيم خان يعتذر لكل من قابله عما حصل لابن بلدتهم بينما الدكتور خان أو شيخان يجدد علائقه مع الجذور ويتقدم بسرعة لاكتساب مفردات عربية.
وفي طريق العودة إلى مسقط لتأكيد حجز السفر الذي فات أوانه كان الدكتور خان والذي كان أبوه يستعيدان مجد عاصمة الإمبراطورية ويقارنان بين الصور التي تصل جواذر بالواقع المعاش فيشهدان النهضة الكبيرة لعُمان في ظل قيادتها الحكيمة ونهجها الرشيد من بنية أساسية متكاملة رغم كلفة التنفيذ كنتيجة لطبوغرافية المكان واتساعه وتناثر تجمعاته السكانية إلى ثبات في المواقف إلى وضوح في الرؤية فكان هذا الحصاد الوفير والمتكامل.
وفي الطائرة العائدة إلى كراتشي ومنها إلى جواذر كان خان أو شيخان هو غير الطبيب الذي سافر بشوق ليرى عاصمة الإمبراطورية فها هو يسابق الزمن ليعود للوطن وإلى وجه أمه.
وفي بلدته كان المشايخ على خط مسقط الداخلية ينسجون المشاوير مع الأجهزة المعنية ويحركون حادثة الغرق مع الشركات الملاحية وقنصليات الهند وبريطانيا لاستعادة شيخان من جواذريته إلى عمانيته ويستخرجون جواز سفر جديدًا باسم شيخان بن عبيد.
عاد شيخان إلى عُمان هذه المرة فارع القامة واثق الخطى فتوجه من المطار إلى بيته لتصطحبه أمه لغرفة أبيه التي أقسمت أن لا تفتحها منذ مات فها هي تخرخش قلادة المفاتيح المربوطة بطرف وقايتها وتعالج القفل الصدئ.
تفتح أمه الباب فرائحة أبيه مكانها منذ رحل وخنجر أبيه مكانه صامتا في تحفز لأن يعلق على جدار قلعة جواذر.
وكانت في الغرفة ملابسه الصغيرة وحزاق الفضة.
سلمته أمه غرفة أبيه وكل أوراقه ومتعلقاته الشخصية فهو اليوم عمود العائلة ولتكون الغرفة عش الزوجية مع من سيختارها قلبه.
توجه شيخان إلى السبلة وكل الذين كانوا صغارا مثله يوما قد كبروا، وكل الذين يلبسون حزاق الفضة يوما يتسابقون على ضرب الشبح، وحلم امتلاك السيكل تطور لامتلاك سيارات بأحدث طراز، والبلدة الصغيرة ببيوتها الطينية أصبح بها الكثير من الفيلات وأطباق استقبال القنوات الفضائية.
افتتح شيحان عيادة في البلدة ونسق لأن يستقدم أباه رحيم خان ليستريح في عُمان بعد عناء تحت مسمى ممرض.
أذن للصلاة والرجل الذي كان يضم في الصلاة أصبح يؤمّهم في غياب الإمام.
خرج هو وصديقه خميس من المسجد باتجاه البيت حين مرت فتاة بنفس الدرب فغلبها الحياء فأشاحت بوجهها صوب الحائط حتى يمرا ككل عفيفات البلدات التي لم تلوثها المدنية.
إنها شواخ بنت المعلم ناصر وقبل أن يعلق شيخان أردف ما رأيك بها.
وبعد أيام كان شيخان مع أمه يتحدث بشأنها فذهبت لتخطبها فزفت له.
اختار أن تكون جواذر مكانا لشهر العسل وأن تكون أمه رفيقة المشوار. وصلوا جواذر عبر كراتشي فحجزوا جناحا بفندق مطل على الميناء وعلى مسافة ليست بعيدة من القلعة التي دخلت تحت الترميم من قبل سلطنة عُمان، إلى جانب الكثير من المشاريع التي تبنيها عمان في جواذر من مدارس ومستوصفات وموانئ.
تركوا الفندق ليتمشوا بالمدينة التي تتلألأ بالكهرباء.
وحين وصلوا بيت رحيم خان كان مضاء بالكشافات الموجهة وبألوان الأحمر والأبيض والأخضر ما يعني أن البيت يشهد فرحا كالزواج وما شابه ليفاجأوا أن رحيم يحتفل بثلاث وعشرين من يوليو.
أقسم شيخان على رحيم وأسرته أن يرافقوه إلى عُمان فقد رتب كل شيء إلا أن رحيم اختار البقاء في جواذر التي يرى أنها عادت إلى الحاضنة العمانية بفضل فيوضات الأيادي القابوسية الممتدة بالخير
توجه شيخان إلى المقبرة التي قيل أن ضحايا المركب الغارق قد دفنوا فيها، فتشابهت القبور إلا أنه انقاد بهدي من قلب أمه إلى أحد القبور لتسقط على قبر زوجها عبيد مغشيا عليها تلثمه وتحتضنه وتستف التراب.
سلم على أبيه وقرأ عند رأسه الفاتحة وأبلغه أن عُمان الحديثة لم تكتفِ بغرس وتد جديد في القلعة كما كنت تتمنى بل شيدت القلعة من جديد.
وأن عُمان عادت إلى نفس الجغرافيا من جديد دون أن تضطر ليرفع التاريخ رايتها على السارية من جديد فمكارمها هي الراية والسارية.
لقد كانت عُمان التاريخية هنا، فجاءت عُمان الحديثة لتستأنف التاريخ وتفرض نبلها بديلا للسيادة وحضارتها بديلا للإدارة، إنها فلسفة يوليو في العودة إلى رباط الأجداد، وفلسفة سيد عُمان في التواجد بقوة في شطآن الإمبراطورية.
انتزع أمه من القبر فاحتوتهم دروب جواذر ومروا بالميناء الذي يستضيف سفنا عُمانية وبالمطار الذي تحط على أرضه ناقلات جوية تحمل الخير.
وفي البر البعيد أيضا كفرضاني زنجبار وكذلك مطارها وأفقها الذي كان يتعطر بمطبعة السلطان برغش وخليفه بن حارب يتلألأ اليوم بمآذن جوامع ومساجد السلطان قابوس ويحتضن يخت فلك السلامة في إبحار جديد لأشرعة ٢٣ يوليو من عاصمة الإمبراطورية إلى موانئ الإمبراطورية.
————————-
مسقط في ١٢ يونيو ٢٠١٩م