العام
عبدالله المطاعني: طالب صيني أشعل روح التنافس في أعماقي
بدا مبتسمًا، منتشيًا، وهو يلوّح بذراعيه لوالده الصحفي علي بن راشد المطاعني لحظة اعتلائه منصة التكريم بجامعة مانشستر البريطانية، في مساءٍ ربيعي، يعدُّ الأجمل في المملكة المتحدة، ذلك أن يوليو هو أحد أجمل شهور بريطانيا من حيث المناخ، وفي السابع عشر منه وجد عبدالله المطاعني نفسه متوجًا بوسام أفضل مشروع تخرج، وسط تصفيق أساتذته وزملائه.
في تلك اللحظة، عادت به الذكريات إلى السنة الدراسية الأولى بالجامعة فيقول: لا أنسى يومي الدراسي الأول بهذه الجامعة، كنتُ قد أتيت إلى مانشستر محملًا بالوصايا العشر، التي يكررها لي والدي في كل محادثةٍ هاتفية، كان الشعور جميلًا بالدراسة خارج أسوار الوطن، لكنه أيضًا مخيف في الوقت ذاته، فأنت محملٌ بأعباء كثيرة، وعليك أن تستذكر – طوال الوقت – أنك تمثل الوطن الذي تنتمي له، وأي تعثرٍ قد يعطي انطباعًا لا ترغب في تذوقه، هذه القيود رغم أنها كانت تثقل كاهلي، إلا أنها كانت تزيد من حس المسؤولية لدي، وكحال جميع الطلبة العمانيين، كنّا ولله الفضل، الأبرز، من حيث الجدية في الدراسة، وجميعنا يشعر بالحس الوطني العالي، في أننا سفراء على غير العادة لوطننا، وهذا ما لمسته في جميع زملائي الطلاب، بل كنا محط انتباه وإثارة الجميع، وكثيرًا ما سمعتها من زملاء عرب وأجانب وأساتذة: (أنتم العمانيون، تعشقون أوطانكم، وتجتهدون في تمثيل عُمان خير تمثيل).
جائزتان معا
جائزتان في يومٍ واحد، رفعا من نشوة الفرح في أعماقه، فالطالب الذي عُرف عنه الهدوء لم يستطع أن يتماسك طويلًا، حتى رمى بقبعة التخرج عاليًا، وطار في السماء فرحًا فأن تحصد جائزة أفضل طالبٍ في الهندسة الكيميائية فذلك أمرٌ رائع، وأن تضيف إليها جائزة أفضل مشروع تخرج في الجامعة فهذا لا يُصدق، لقد عملت سنةً كاملة على هذا المشروع بلا توقف، الدراسة هنا تجعلك جادًا في جميع تصرفاتك، الحزم الذي لاقيته من الأستاذ المشرف جعلني أواظب العمل ليلا نهارا، كان التواصل بيننا مستمرًا طوال اليوم، داخل الجامعة وخارجها، وهذا ما يعجبني في هذه الجامعة، فالأساتذة رغم مكانتهم العلمية والبحثية الكبيرة، إلا أنهم متواضعون، ويولون كامل العناية لطلابهم، ويدفعوننا إلى العمل وإذكاء روح الخيال والفكر والقراءة، السنة الأخيرة مثلًا، كانت بالنسبة لي سنةً للذاكرة، وفيها عرفت قيمة الهندسة الكيميائية في التفاعل مع الكون والحياة».
لم يتوقف تكريم عبدالله عند حدود الجامعة فقط، بل منحت له شهادة أفضل طالب من شركة برتيش بتروليم البريطانية التي تمنحها في العادة لأفضل الطلبة في المجالات الهندسية تشجيعا لهم على إنجازاتهم العلمية وتحفيزا لزملائهم على السير في درب التفوق، كما هنأته جامعة مانشستر البريطانية في رسالة بعثت بها إليه عبر البريد الإلكتروني على هذا الإنجاز، راجيةً له المضي قدما بذات الروح الوثابة لتحقيق المزيد في مسيرته العلمية والعملية، واصفًا الأمر كله بالمفاجأة الحالمة، قائلًا: لا يشعر بقيمة الفرح إلا من يبتسم قلبه وعينه في ذات اللحظة، ولقد غردت كل جوارحي حبورًا بفوزي بجائزة (BP) ذلك أنها جائزة من الصعب الحصول عليها، وهي لا تمنح إلا للكفاءات النادرة في مجال الهندسة الكيميائية. ستبقى خالدةً في سجل إنجازاتي الشخصية، خصوصًا وأنها صادرة من شركةٍ عالمية، صاحبة سمعة لا تضاهى في مجالي النفط والغاز في العالم كله، ما يعني أنها ستدفعني بكل قوة لتحقيق إنجازاتٍ أفضل، وتجبرني على ألا أتحرر من المسؤولية في اقتناص جوائز وإنجازاتٍ أخرى، علّني أفيد بها وطني وأكون فاعلًا ومتفاعلًا مع العلم والإنسانية في رحلتهما مع التقدم العلمي والتكنولوجي المتسارع.
بتفاصيلٍ أوفى عن المشروع، يتحدث المطاعني قائلًا: تشعر بلذة ما أنجزت، عندما تعرف أن 300 طالب من مختلف بقاع الأرض يتنافسون معك عليه، ومشروعي هو عبارة عن تصميم جزء من مصنع يقوم بتحويل غاز الاثيلين والبروبلين من الميثانول، ينقسم إلى شقين؛ الأول عمل جماعي مع مجموعة من الطلبة، والآخر فردي قمتُ به، والذي ميّز مشروعي أن التحليل الذي قدمته كان علميا وليس مكتبيا فقط، كما سبقه من بحوث ودراسات، فجاء بحثي مبنيًا على استنتاجات دقيقة، نالت إعجاب ورضا الأستاذة في الكلية من واقع مرئيات التصميم الذي أجريته.
ويضيف: عندما اشتدت المنافسة على المشروع، كان أستاذي يدفعني للتفكير أكثر، ويطلب مني الوصول إلى درجةٍ عاليةٍ من الدقة في تصميم المفاعل، وهو يفتّح عينيّ على عالم التصنيع والتفاعل الكيميائي، وتراءى لنا وقتئذ كيف أن الهندسة الكيميائية هي من تقود العالم الآن في الصناعة، كما أن المنافسين من الطلبة كانوا يدفعونني أيضًا لمواصلة تجويد المشروع والاشتغال عليه أكثر، خصوصًا الطالب الصيني، الذي لا ينفك عن العمل على التطوير والتحسين، حتى وجدتني أرفض فكرة الخسارة، هذا التنافس كان دافعًا روحيًا وذهنيًا للتجديد، ولم يفارق المشروع خيالي، بل إنه كثيرًا ما زارني في منامي، ووجدت صداه مجلجلًا في صحوي ومتنفسي.
ثمة تحدٍ جديد، سيخوضه المطاعني بحبٍ واندفاع، إذ يقول: لم يدر بخلدي يومًا، أنني سأحصل على منحةٍ دراسية للماجستير من أعرق جامعةٍ في العالم، وهي جامعة كامبريدج البريطانية، التي احتلت المركز الأول على ترتيب جامعات العالم حسب تصنيف QS لعام 2010 متجاوزة جامعة هارفارد الأمريكية العتيقة، وأسطورة الجامعات العالمية جامعة أوكسفورد أقدم جامعات بريطانيا السبع العريقة، هذه المنحة بعثت الأمل الكبير في أعماقي أن أقدم خيرًا لوطني وللبشرية، فهذه المنحة الرائعة لا تعطى إلا للمتفوقين في مجالات الهندسة الكيميائية، لذلك، فإني أمام تحدٍ لا سبيل أمامي إلا اجتيازه، والعمل على تحقيق مستوى عالٍ لا يقلُّ عن الذي قدمته في مرحلة البكالوريوس، خصوصًا وأن الهندسة الكيميائية من التخصصات التي تحتاجها عُمان في تحويل النفط والغاز إلى مشتقات نفطية تزيد من قيمتها وتصنع داخل السلطنة بدلًا من استيرادها من الخارج.
ويكمل: الطريق الأكاديمي لا يُفرشُ بالحرير، لكنه بالنسبة للطامحين لا يعدو أن يكون على مرمى وردةٍ لا أكثر، ذلك أن الطموح سائقنا إلى بلوغ الهدف، بكثيرٍ من الصبر وقليلٍ من التذمر ومزيدٍ من العمل والمصابرة والبحث والتقصي، فهو خياري الوحيد حتى الرجوع إلى بلدي الغالي بشهادة الدكتوراه في مجال الهندسة الكيميائية، خصوصًا وأننا مقبلون على انفتاحٍ صناعي كما يُخيّل لي، ولا مناص من ذلك إن أردنا مسايرة ركب الحضارة، فالرغبة كامنةٌ في أعماقي -كُمون النار في الحجر- لإجراء بحوث ودراساتٍ متخصصةٍ في مجال تطوير الصناعات البتروكيماوية، التي تسهم بلا شك في رفع القيمة المضافة لحقلي الغاز والنفط، وهو ديْنٌ في عنقي لخدمة بلدي وردُّ الجميل له.
لحظات فارقة
أما عن اللحظات الفارقة في حياته، فقد لخّصها المطاعني بقوله: ثمة لحظاتٍ طُبعت في القلب لا يمكن نسيانها، اللحظة الأولى هي حصولي على درجاتٍ عالية في الثانوية العامة، كانت بالنسبة لي لحظةً فارقة، فأخي الأكبر عصام سبقني إلى تحقيق نتيجةً مثالية، وهي نسبة 95%، فكان علي أن أحصل على نتيجة جيدة تزيد من سعادة والديّ اللذين لم يدخرا وسعًا في توفير كل المناخات المثالية لنا للنجاح، وفعلا حققت نسبة 97% على ضوئها حصلت على منحةٍ دراسية من قبل وزارة التعليم العالي لجامعة مانشستر، أما اللحظة الأخرى المؤثرة في حياتي، فكانت فور وصولي إلى مدينة مانشستر، حيث أقضي أيامي الأولى بعيدًا عن العائلة، وكنت قبل ذلك لصيقًا بهم، لا أطيق البعد عنهم، فأنا كما يعرفني الجميع «بيتوتي» لا أغادر المنزل، وأشعر بألفة العائلة حولي، هنالك كانت رحلة الألف ميل التي بدأت بخطواتي الأولى وحيدًا، منكفئًا على ذاتي، معتمدًا على نفسي، فكانت تلكم اللحظات مدرسةً حقيقية في تاريخي وشكّلت مرحلةً مهمةً في تكوين وتنشئة شخصيتي، فهي لحظات سكبتُ فيها ماء العين تجلدًا، وحافظت على ماء الوجه كبرياءً ونجاحًا، أما اللحظة التي فاقت ما سواها هي لحظة النداء بالصعود إلى المنصة مرتين، الأولى في التكريم الخاص الذي كان حصريًا للمتفوقين، والأخرى في حفل التخرج، وأنا أرقب مهرجان المشاعر يتلوّن على قسمات وجه أبي، الذي نظر إليَّ نظرة حنوٍ وافتخار، فرأيتني للمرة الأولى في حياتي أصعد إلى المسرح بخيلاء كبير، لا غرورًا، بل بما صنعته في أعماق أبي -من سعادة- الذي أراه مثلي الأعلى في الحياة، فرضاه بالنسبة لي هو قدس الأقداس ونعيم الله في أرضه.