الثقافي

مهرجانات تدعو الشعراء على حـــــــــــــسابهم الخاص .. وماذا بعد؟

منذ فترة ليست بالقصيرة، وفي ظل التردي الحضاري الذي يشهده العالم العربي، ظهرت في الميدان الثقافي ظاهرة مؤسلمة ومؤشفة في آن واحد، الا وهي ظاهرة الدعوات التي تقدمها بعض المؤسسات والمهرجان لبعض الشعراء للمشاركة الخارجية، على أن يتحمل الشعراء تذاكر السفر على نفقتهم الخاصة، بل إن بعض الدعوات تذهب إلى أبعد من ذلك حين تطلب من الشعراء التكفل بنفقات النقل والإقامة.

 

وإنه لأمر مؤسف جدا أن يأتي خطاب الدعوة للشاعر مذيلا بعبارة «الجهة المنظمة» تتكفل بالنقل والإقامة فقط، أثناء انعقاد المهرجان»!
وإننا نتساءل: كيف يقبل الشعراء هذه الدعوات التي هي في جوهرها إهانة للشعر والشاعر؟ وكيف تبادر الجهات المنظمة بإقامة فعاليات ودعوة شعراء طالما كانت غير مقتدرة ماليا على تنظيمها؟ ألا يعلم القائمون على هذه المهرجانات ماهي الإساءة التي يرتكبونها في حق الثقافة عموما والشعر خصوصا، والشاعر أيضا، بمثل هذه الممارسات؟ ثم ما هي النتائج التي تترتب على مثل هذه التقاليد على المستوى البعيد؟ هذه الأسئلة وغيرها طرحتها (التكوين) على مجموعة من الشعراء والمعنيين، عبر هذا الاستطلاع.
نظرة دونية
الشاعر الدكتور هلال الحجري يبادر قائلا: لا يليق بالشعراء أبدا قبول مثل هذه الدعوات المتهافتة التي لا تقيم وزنا للأخلاق العربية المتصلة بالضيافة، فضلا عن احتقارها لمكانة المثقف في الأمّة. من المؤسف جدا أن تستمرئ بعض المهرجانات العربية هذه المعاملة المشينة للشعراء؛ عِلمًا بأنها لا تفعل ذلك عن عجز في المال لأن الدول التي ترعاها تصرف من موازناتها أموالا باهظة على أمور تافهة لا تقارن إطلاقا بأهمية الشعر ومكانته. ما يحدث في العالم العربي في هذا الشأن مُخْزٍ ولا يقتصر على الشعر فحسب وإنما يمس الثقافة بشكل عام في صميمها.
ويضيف الدكتور هلال الحجري أن ثمّةَ نظرة مَرْذولة تجاه المثقفين بأنهم لا يستحقون الدعم انطلاقا من تصورات قاصرة حول أولويات الحياة. لا يوجد لدى المسؤولين عن خزائن المال في العالم العربي أي وعي بقيمة الثقافة، والشِّعر خاصة، فتراهم ينظرون إلى المهرجانات والمحافل الثقافية نظرة دونية تنعكس سلبا على الموازنات المالية التي يخصصونها لمثل هذه الأنشطة. ولا أعلم حقيقة ما المجالات التي تشغل هؤلاء في صرف المال؛ مما كان له الأثر الملموس في حياة المواطن العربي.
ويختتم الدكتور هلال الحجري مداخلته قائلا: ما نراه واقعا في كثير من الدول العربية هو منظومة شاملة من التخلف في المجالات العسكرية، والصحية، والتعليمية، والمعيشية، إن كانت هذه المجالات قد استأثرت بنصيب الأسد من الموازنات! ولا يجدر بنا هنا أن نقارن بين وضع الثقافة في هذه الدول ووضعها في الدول المتقدمة التي تصرف ببذخ على جميع مجالات الثقافة من شِعْرٍ، وفلسفة وفَنّ.
الأمر يبدأ من الشاعر
وتتفق الشاعر الدكتورة حصة البادي مع ما ذهب إليه الدكتور هلال الحجري، موضحة أن للشعر مكانته عبر عصور الأدب المختلفة وصولا لصدارتها بتفوق في عصور أعلت من قيمة الكلمة والفكر، وما نشهده اليوم من تراجع لتقدير الأدب والشعر لا ينبغي أن يكون منهجا نقبله ونعززه بوعي أو عن غير وعي.
وتؤكد الدكتورة حصة البادي أنه حينما أساء الشعراء تقدير ذواتهم المتمثّلة في قصائدهم قبلوا بالكثير من المشاركات المجحفة للإبداع مما جعلهم يعيشون صدمة التقاء الإبداع الحقيقي بوهم الإبداع المصنوع عبر مهرجانات كانت أهدافها كَمِيَّة دون عناية بنوعية المنتج الإبداعي.
وشيئا فشيئا وجدت هذه المهرجانات التجارية بغيتها في كثرة الشعراء مع ندرة الشعر
ومن نافلة القول إن على الشاعر الحقيقي أن ينأى بنفسه عن هذه المنصات الاستهلاكية إكرامًا للشعر خصوصا وللفكر عموما، وأن يخزن ما لديه من وقت لكتابة قصيدة يشعر معها وبها بقيمة الحرف التي يعلو بها ذاتا دون تسوّلٍ للضوء أو للتلقي بما فيه من إجحاف للشعر الحق.
وتنهي الدكتورة حصة البادي حديثها مشددة على أنه إن كان للشاعر في أزمنة سابقة عِزةٌ تحفظ له كرامته فهو اليوم بذلك أولى مع انفتاح تواصلي يحفظ له هذه المكانة إن شاء، حيث يمكنه الاستغناء عن الجمهور الكمي بجمهور نوعي رائع عبر قناة رقمية يعبر بها مع نصوصه لجمهور يعرف قيمة التلقي وقيمة تتبع الشعر دون انتقاص من شاعره. المسألة معنوية قيمية تماما ولا ينبغي أن تصبح مادية استهلاكية وتقدير الشعر يبدأ من الشاعر (الشاعر الحقيقي أعني).
الاقتصار على شعراء البلد
الشاعرة الدكتورة نبيلـــة زباري من مملكة البحرين تقول: بدايــةً، جميل أن تكون هناك مشاركات للشاعر/ة في المهرجانات والملتقيات الشعرية في البلاد العربيــة أو الأجنبيــة، فهي التي تثري خبراته الإبداعيــة والإجتماعيــة، ولكن يبقى السؤال، هل «في بعض الأحيان» لابد أن يتكفل الشاعر/ة بمصاريف السفر وأحياناً الإقــامة لكي يستطيع المشاركة في الفعالية الشعرية؟
مادامت الجهة المنظمة غير قادرة ماديا على توفير أبسط المطالب للشعراء المدعوين من تذاكر سفر وإقامة جيدة، فأعتقد أنه في هذه الحالة من الأفضل الاقتصار على شعراء البلد نفسه فقط، ذلك أن ليس كل شاعر أو شاعرة لديهم المقدرة على توفير مصروفات السفر، خصوصًا من لديه مسؤولية عائلاتهم إضافة إلى محدودية رواتبهم.
وهنا تطرح الدكتورة نبيلة زباري سؤالا وهو: ألا يكفي إبداع الشاعر الذي يقدم فكره ونتاجه في المهرجان بلا مقابل في معظم الأحيان؟ هذا بينما نشاهد ونسمع عن صرف الآلاف المؤلفة من الأموال على الفنانين والمطربين الذين يقدمون مجالاً إبداعيًــا آخر وهو الموسيقى والغناء، ولكن شتان بين ما يُصرف على حفلاتهم وإقامتهم وما يُصرف على مهرجانات الشعر عمومًا.
ورغم أن الشعر -كما يقال- هو ديوان العرب، وهو الوجه اللامع لفنون المجتمع وثقافتــه، ولكن حاجز الميزانية الضحلة التي تُخصص له- أو اللا ميزانية! – كثيرا ما يقف عائقًا أمام ازدهار الشعر والشعراء، إضافــة إلى أن في ذلك انتقاص من قدر الشاعر/ة كما يؤدي إلى إحباطه – خصوصًا إذا لم يتمكن من المشاركة على حسابه، وبالتالي فإن ذلك قد يؤدي إلى انحسار الإبداع في نفسه.
أما ما يتوجب القيام به لمواجهة هذه الظاهرة التي تنتقص من حق الشعر والشعراء، وفقا للدكتورة نبيلة زباري فهو التنسيق مع وزارات أو هيئات الثقافة في البلد نفسه كما مع البلاد الأخرى التي يأتي منها الشعراء، وذلك بتخصيص الميزانية الكافية للمهرجانات والملتقيات الشعرية كبند رئيسي من بنود مصروفات الدولــة، مع تسهيل تلبية الشاعر للدعوات الموجهة إليه بدعمه ماديا ومعنويا.
هذا إضافة إلى تطوير المهرجانات الشعرية (وامكانية مزجها مع الفنون الأخرى كالموسيقى مثلا). وقد رأيت في بعض البلاد الأوروبية أن مهرجانات الشعر كانت مقترنة بالسياحة. كما لابد من الاهتمام بإبراز المهرجان بصورة جاذبة للجمهور المتلقي من حيث المكان والإضاءة والإخراج وما إلى ذلك، كما يحبذ تخصيص مكافأة ماديــة للشاعر/ة لدى المشاركة في المهرجان. وذلك يتم طبعا بعد إعطاء الاهتمام الكافي والاحتفاء بالشعر والشعراء كما يحدث في بعض الدول المتقدمـــة، من أجل أن تعـود للشعر مكانته العاليـــة.
شعراء من الدرجة العاشرة
الشاعر والصحفي الأردني عمر أبو الهيجاء من جهته يقول: ما من شك أن المشاركات في المهرجانات والملتقيات الشعرية مهم للشعراء الذين لهم تجاربهم وبصماتهم في جميع المحافل العربية والدولية، على أساس احترام هذه التجارب وانصافها لما تتمتع به من حضور وإضافة نوعية لأي مهرجان في أي قطر عربي.
لكن الملاحظ هناك ثمة مهرجانات تتسلّق على أكتاف الشعراء المهمين من خلال توجيه الدعوات لهم على أساس أجور تذاكر السفر على حسابهم الخاص أما الإقامة فهي على الجهة الداعية، الشاعر الحقيقي لا يتسول إقامة وضيافة.. ربما أدعياء ويقبلون بمثل هذه الدعوات ومعظمهم من الدرجة العاشرة في بلدانهم وأكثرهم شعراء فيس بوك. أما الشاعر الحقيقي فيترفع عن ذلك احتراما لتجربته ومسيرته الإبداعية، وتعتبر مثل هذه الدعوات منقصة من الشعر والشعراء.. هناك مهرجانات مهمة تقدر الشعر والشعراء، وتسعى دائما إلى تكريمه. أدعو إلى مقاطعة مثل هذه المهرجانات.
ويلقي الشاعر عمر أبو الهيجاء اللوم على الشعراء الفيسبوكيين أنهم هم من يقيمون مثل هذه المهرجانات باسم الشعر والشعراء، مضيفا أنه وللِأسف مثل هذه المهرجانات منتشرة في وطننا العربي. من هنا، وزارات الثقافة في الوطن العربي مطالبة بدراسة هذا الموضوع بجدية ووقف مثل هذه احتراما للبلد واحتراما للشعر والشعراء، لأن الشاعر هو سفير دولته والناطق الرسمي باسم الفقراء والمهمشين، الشاعر لسان المتعبين والجوعى على أطراف هذه الأرض، لنرحم هذا الكائن الأكثر جمالا المسمى «الشعر» من المتطفلين من أشباه الشعراء وأشباه المهرجانات المرتجلة في زمن قلّ فيه الشعر وكثر الشعراء..
أسلوب رخيص
ويضم الشاعر العراقي عامر عاصي صوته إلى الأصوات السابقة مشير إلى أنه مثلما نعاني من فقدان التقاليد الثقافية بشكل عام، فإننا (كأمة) نفتقر إلى مراسم تليق بإقامة هذا التقليد الثقافي أو ذاك، ومنها المهرجانات، وأسوأ ما يشوبها هو أساليب توجيه الدعوة للشاعر، سيما حين تذيّل بعبارة تتعلق بتحمله تكاليف السفر، أو حتى الإقامة، مما يسيء إلى تقاليد الضيافة في مجتمعاتنا الشرقية أولا، فضلا عن تغافلها عن حساسيات الشاعر (المفترضة) وتركيبته النفسية المختلفة ..
ويضيف عامر عاصي أن مثل هذه الدعوات تدل على فقر الثقافة في مجال البروتوكل واللياقة أولا، كما تدل على فقرها المالي أيضا، وهذا أمر ناشئ من التركيبة السياسيةـ الاجتماعية لمجتمعاتنا، فهي مجتمعات تنفق على أجهزة الأمن أكثر مما تنفق على الثقافة، مما يتسبب بفقر المشهد الثقافي ماليا، وحصول مثل هذه الأحوال ..
أما أسوأ ما يحدث في هذا المجال فهو تنظيم بعض الأشخاص والجماعات لمهرجانات بمثل هذه الدعوات، لقاء الحصول على دعوات مقابلة لها ولكن من قبل دولة المدعوين، وعلى نفقتها، وهو أسلوب رخيص غزا المشهد الثقافي العربي والشرقي في السنين الأخيرة
ومثلما لا يفترض بأي شاعر أن يلبي دعوة مثل هذه، يفترض بالجهات والمؤسسات الثقافية أن تعد العدة الصحيحة ماليا وتنظيميا قبل أي نشاط أو مهرجان أو مؤتمر ثقافي، لأن هذه الممارسات أساءت للثقافة بطرق عديدة، وقدمت إلى الواجهة أسماء لا تمثل المشهد الثقافي في بلدانها، مما جعلها نشاطات تمثل جزءا من المشكل الثقافي وليس من الحل ..
وهذا الرأي، على حد رأي عامر عاصي، لا يشمل بالتأكيد بعض الدعوات التي تقيمها مؤسسات في دول أو مناطق فقيرة ماليا، ولكن يتشرف الشاعر أن يصل إليها على نفقته الخاصة، خدمة للمشهد الثقافي ولتجربته الخاصة، وهي حالات استثنائية ونادرة .
دوافع انتفاعية
الشاعرة والإعلامية الفلسطينية نداء يونس أكدت في مستهل حديثها أن الأصل في الشعر أن يأتِي لا أن يُؤتَى، وهذا الخطاب ينطبق على حجيج الشعر لا على الشعراء، مضيفة أن التعقيب على هذه المسألة لا ينفصل عن استعراضٍ واعٍ لواقع الشعر في العالم العربي ومهرجاناته، فإذا ما كانت المشاركات المدفوعة التذاكر والاقامة لمهرجانات شعرية مبنية في أغلبها على تمرير شخوص بدافع الصداقة والعلاقات الانتفاعية تحت مسمى الشعر وبعيدا عنه، وعلى أساس المعرفة الشخصية لا المعرفة الشعرية والقدرة على نقلها وتناقلها، واذا ما كانت فرص كهذه تمنح لمحبي الظهور، والذين لا يتورع أحدهم عن دفع الآلاف من الدولارات لطباعة كراسات «شعرية» لا تضيف في أحسن أحوالها إلى المشهد الشعري، فان قيام البعض بدفع تذاكر واقامات كي يضمن حضوره في مهرجان أو فعالية يصبح امرًا طبيعيًا غير مستغرب.
وتستطرد نداء يونس موضحة أنه في إطار انتشار مثل هذه الدعوات التي تستهدف إيجاد حدث لتسليط الأضواء على القائمين عليه، ليس إلا، وتمرير أجندات شخصية، فإن الشاعر الذي يبحث عن الأضواء مدعو الى ولائم منبرية أمام مقاعد شبه فارغة ولاستعراض ما يقنع جمهور الشعر بهزالته وسطحيته.
إن مواجهة هذه الظاهرة لن تكون مؤسساتية أو من خلال تظاهرات ثقافية أو الكتابة رفضًا وتنديدًا، سيما وأن مرض حب الظهور يصعب علاجه، كما أن المؤسسات الثقافية الرسمية وشبة الرسمية في عالمنا العربي تبني المشهد الثقافي على صداقات وعلاقات ومنافع، بل سـتأتي من خلال جماهير الشعر التي ستملأ المقاعد في حفل موسيقي أو في مقهى بينما ستترك مهرجانات الشعر لمن ينضمها حضورًا والقاء واستماعًا وتصفيقًا وتكريمًا.
واختتمت نداء يونس حديثها مشيرة إلى أنها قد ترى الأمر من زواية أخرى، ألا وهي أن هذهالمشاركات تأتي في إطار ردة الفعل لدى بعض الشعراء الجيدين على احتكار المشهد الثقافي لصالح أسماء يتم تكريسها لا غيرها وفي غالبها تسيء للمشهد الثقافي وللشعر، ولعدم قدرتهم على الانخراط في علاقات مشروطة، وبالتالي تصبح هذه الدعوات متنفسًا للخروج من الوصاية على المشهد الثقافي. وحده جمهور الشعر قادر على الغربلة، ووحده قادر على الانتماء إلى الجمال دون اشتراطات المصالح والشخصنة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق