الثقافي

(أُحجياتُ السرد: المكونات السردية في قصيدة التفعيلة العمانية) لخالد المعمري

تعد قصيدة التفعيلة العمانية، من حيث تكوّنها ونشأتها، قصيدةً حديثة العهد والتشكل؛ إذ ترجع بداياتها إلى أوائل السبعينيات من القرن المنصرم، عدا ذلك كانت القصيدة العمودية التقليدية، لقرون طويلة، القصيدةَ التي تمثل الشعر العماني مثلما هو الحال في القصيدة العربية غالبا. وقد كانت القصيدة العمانية التقليدية ملمحا من ملامح الشعر العربي من خلال توحّدها في أجزائها ومضمونها مع القصيدة العربية، حتى كانت حقبة الأربعينيات من القرن الماضي حين ظهرت في الشعر العربي ملامح قصيدة التفعيلة التي عملت على تكوين الأرضية الخصبة لنشأة شكل شعري جديد في المشهد الشعري العماني.

في كتابه (أحجيات السرد: المكونات السردية في قصيدة التفعيلة العمانية) يتتبع الشاعر والباحث خالد بن علي المعمري نشأة قصيدة الفعليلة في عمان والتحولات التي مرت بها، إلى جانب مختلف ظواهرها الفنية وأبرز رموزها.

قسم المؤلف كتابه إلى مقدمة ومدخل نظري وثلاثة فصول بحثية وخاتمة. ناقش في المدخل النظري ثلاثة محاور تتمثل في (قصيدة التفعيلة في الشعر العماني: النشأة والتحولات) و(تداخل الأنواع في القصيدة العربية: الغنائي ــ الدرامي ــ الملحمي) و(المكونات السردية بوصفها مدخلا لقراءة القصيدة). أما الفصل الأول فقد تناول (الشخصية والحوار في قصيدة التفعيلة العمانية)، فيما بحث في الفصل الثاني موضوع (الزمان والمكان في قصيدة التفعيلة العمانية)، وفي الفصل الثالث درس (تداخل الشعري والسردي في قصيدة التفعيلة العمانية).

التشكّل والتكوين

يرصد المؤلف في مقدمة الكتاب البدايات الأولى لقصيدة النثر قائلا: “لقد بدأت قصيدة التفعيلة العمانية في التشكّل والتكوين من خلال الاطِّلاعِ على نماذج شعرية تكوَّنت في الوطن العربي، فكانت هذه القصيدة مختبئة بين أسوار القصيدة الأم، ولم يزل يسكن شعراءَها هاجسُ القصيدة العمودية، حتى بدأت في الانطلاق بعد عقود من الصراع الشعري مع شكل القصيدة السابقة ومضمونها.

لقد اشتغلت هذه الدراسة على قصيدة التفعيلة العمانية المعاصرة عبر تحليل جوانبها السردية المختلفة من شخصية وزمان ومكان وأحداث وحوار وصراع درامي.. إلخ، وجاءت الدراسة منفتحة على قصيدة التفعيلة منذ بداية السبعينيات إلى الآن. ونظرا لأن الأصوات الشعرية في هذه القصيدة متعددة ومتباينة، ويجمعها بعض التشابه، لذا اقتصرت الدراسة على أربعة شعراء بما يشمل تجاربهم الشعرية طيلة المراحل السابقة، وهم حسب الترتيب التاريخي: هلال العامري، حسن المطروشي، ناصر البدري، محمد الشحي.

التجديد والرفض

في خاتمة كتابه يتوصل خالد المعمري إلى عدة استنتاجات يقول عنها: ” تُعّدُّ قصيدة التفعيلة العمانية قصيدة حديثة التشكُّل في خريطة الشعر العماني؛ حيث تعود نشأتُها إلى السبعينيات من القرن الماضي، وكانت بداية ظهورها عند الشاعر عبدالله الطائي من خلال قصيدته (انفخوا النار). ومنذ بداية تشكُّلها وإلى الآن، فإن قصيدة التفعيلة العمانية تُعَدُّ نمطاً شعرياً تحديثياً ومكمّلاً، وشكلاً من أشكال التجديد في القصيدة الراهنة وليس منهج رفضٍ للشكل الشعري التقليدي.

وقد لعبت الشخصية دورا بارزا أثناء حضورها في النصوص الشعرية، وعمل الشعراء على استحضارها وبناء تكوينها داخل القصيدة الجديدة. كما لجأ شعراء قصيدة التفعيلة إلى استخدام الحوار بنوعيه (الديالوج والمونولوج) إيمانا منهم بدوره الكبير في تشكيل دلالات قصيدتهم الدرامية الحديثة، ومنحها دلالات جديدة ومختلفة. وقد ورد الحوار بصُوَرٍ مختلفة في نصوص العينة، وهذا دليل على قدرة الشاعر الحديث على استيعاب وتوظيف عناصر السرد وتقنياتها المختلفة بصورة دقيقة تنمُّ عن وعيٍ شديدٍ.

وقد وجد المؤلف أن هناك تداخلا كبيرا بين عناصر السرد المختلفة أدت إلى تشكيل جمالية النصوص الشعرية؛ فقد أدى تداخل الحوار مع الشخصيات إلى كشف ملامح شخصيات العمل الفني، وتحريك الأحداث واتساعها وفق عاملي الزمان والمكان.

وقد تنوَّعت دلالات الزمن في الخطاب الشعري للعينة، فجاء الزمن ليكشف مفردات النص الشعري، وذكرياته وأحلامه من خلال العودة للماضي والانتقال للمستقبل. كما ورد الزمن في بعض نصوص العينة على هيئة زمن لغوي متجرد من أي دلالة زمنية فيزيائية قائمة على أبعاد الزمن الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل). وجاء اشتغال الشعراء على دلالات الزمن اللغوي، بما ينبئ عن الدراية الكبرى للشعراء في توظيفهم لهذه التقنية.

حضور الأمكنة

وبرز عنصر المكان في قصيدة التفعيلة العمانية كونه استراتيجية لغوية فنية ساعدت على تحرك الشخصيات والأحداث ضمنها، واتساع دلالات النص الحديثة بما يقوم به كعنصر فاعل داخل النص؛ فأكثرَ شعراء هذه العينة من الحنين إلى أماكنهم الأولى واستعادة ذاكرتها القديمة، وهذا ملاحظ في كثرة المشاهد في تلك النصوص. كما تعدد حضور الأمكنة في النصوص المقدّمة فما بين أمكنة واقعية، وأمكنة متخيلة، وأمكنة متخفية في مفردات اللغة الشعرية. كما أدّى التداخل الكبير بين عنصري الزمان والمكان (الزمكانية) إلى إيجاد حقول زمكانية عملت على توليد قيم دلالية حاضرة في النص.

إلى جانب ذلك رصد الباحث أن قصيدة التفعيلة العمانية تناول وفق التجربة الصوفية عناصر السرد المختلفة؛ فجاء الرمز معادلا للشخصية، وعبَّر الذِّكْرُ والمناجاة عن تقنية المونولوج الداخلي، واستطاع الشاعر في هذه القصيدة من الخروج عن سلطة الزمان والمكان، وعدم الخضوع لهما.

كما لجأ العديد من شعراء التفعيلة إلى استلهام مفردات التجربة الصوفية من خلال استدعاء الرموز والشخصيات الصوفية، وتكثيف مفردات ودلالات التصوف، وذلك بحثا عن لغة مبتكرة مختلفة عما كان في السابق.

وذهب المؤلف إلى أن تداخل الشعري والسردي أدّى إلى انفتاح تجربة الشعر العماني على تجارب شعرية عربية وعالمية، واستطاع الشعراء من خلال هذا التداخل توظيف جميع العناصر والتقنيات في خدمة النص الشعري مما عمل على تقديم نص شعري حافل بالدلالات.

ويمكن القول، وفقا للمؤلف، إن قصيدة التفعيلة العمانية المعاصرة في نمو فني متزايد، وابتكار متصاعد، ولا أدل على ذلك من الكتابات الشعرية الحديثة المنفتحة على تجارب عالمية. كما عملت قصيدة التفعيلة العمانية على تقديم صورة وشخصية مبتكرة للقصيدة العمانية الحديثة من خلال ما تم التطرق له من استيرادها للتقنيات السردية الحديثة، وتداخل الشعري مع السردي، وهو إيذان بوعي شعراء هذه القصيدة بأهمية هذه التجربة، وصوغها وتقديمها في إطار مختلف.

وكشفت الدراسة عن أن قصيدة التفعيلة العمانية المعاصرة ثرية بدلالاتها النصية، وصورها الشعرية، وعناصرها السردية، وإنتاجها المتميز، وهذا ما يدعو إلى تكثيف الدراسات النقدية مستقبلا حول هذه القصيدة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق