العام
إبراهيم الصبحي: مستعدون للديموقراطية ونسينا أهمية الموقع الاستراتيجي
الدكتور إبراهيم بن حمود بن سعيد الصبحي.. أحد رجالات الدولة العمانية الحديثة، الذين أسهموا في بناء عمان الجديدة، عمان النهضة والمجد، عمان الحكمة والتسامح والوئام. خرج من بلده مبكرا ليستقر به المقام في البحرين، كأغلب العمانيين الذي أجبرتهم الظروف للبحث عن فرصة التعليم أو لقمة العيش خارج وطنهم في تلك المرحلة الصعبة من تاريخ البلاد. استغل فرصة وجوده في البحرين ليدرس ويتعلم ويبحث عن كل فرصة للارتقاء في سلم المعرفة والثقافة حتى نال أعلى الشهادت من العديد من الصروح الأكاديمية والعلمية عربيا ودوليا، الأمر الذي مكنه من الإسهام بفعالية في بناء عمان الوطن الحديث.. كما أصدر مجموعة من الكتب ودواوين الشعر، وهكذا الحوار معه حوار مع الرجل والتجربة، لنرى التفاصيل أكثر في مسيرة الدكتور ابراهيم الصبحي.
حوار: حسن المطروشي
من نزوى إلى البحرين
دعنا نبدأ معك الحديث عن مرابع الصبا وأعوام الطفولة التي انطلقت منها إلى فضاءات الحياة الواسعة والعطاء والإنجاز؟
في البدء أود أن أتقدم بالشكر لمؤسسة بيت الغشام. والشكر لله وحده وأشيد بهذه المؤسسة الفتية التي أتمنى لها أن تكبر وتترعرع لتكون منبرا من منابر الثقافة والإعلام في هذا البلد. إنني أشيد بهذه المؤسسة وجميع القائمين عليها وبالجهود التي تبذلها لنشر الكتاب العماني والأقلام العمانية بالذات، وهذه بادرة طيبة تظهر النتاج العماني في هذا الميدان.
أما بالنسبة لطفولتي فقد كانت نشأتي الأولى في نزوى، وخرجت منها إلى البحرين مبكرا في عمر الرابعة أو الخامسة تقريبا. ملتحقا بوالدي ووالدتي وأخوالي ومعظم أفراد العائلة الذين كانوا يعيشون هناك.
واصلت مشوارك التعليمي على غرار الكثير من العصاميين من أبناء جيلكم المكافح والمغترب خارج الوطن. حدثنا عن هذه المسيرة؟
في سن السابعة قلت لوالدي أنني أرغب في الدخول للمدرسة، فأشار إلى الوالد أن أذهب إلى الكتاتيب لدراسة القرآن الكريم، ولكن كان لي رأي آخر، ففي الوقت الذي أكدت فيه لوالدي اعتزازي بكتاب الله باعتباره «الغطاء» الذي يسترنا ويحمينا جميعا، إلا إننا نحتاج مع القرآن إلى علوم أخرى. والقرآن الكريم سوف ندرسه في المدرسة مع العلوم الحديثة أيضا، فأبدى والدي موافقته ولم يعترض على رغبتي.
عند ذهابي للمدرسة قابلت المدير وسألني عن عمري وشهادة ميلادي، فقلت له أني في السابعة وكبقية العمانيين في تلك الفترة لم أولد في مستشفى حتى تكون لدي شهادة ميلاد رسمية، ولكن العائلة تحتفظ بتاريخ ميلادي. فتم قبولي في الصف الأول، وواصلت الدراسة حتى أنهيت المرحلة الابتدائية.
بعدها واصلت دراستي الثانوية (كانت تسمى ثانوية، ولكنها في الحقيقة سنتان إعدادي وسنتان ثانوي وبعدها دراسة التوجيهي). ويبدأ التخصص في السنة الأولى ثانوي، سواء علمي أو أدبي أو معلمون أو صناعي أو تجاري، وفقا لميول الطالب واختياره. لقد كان التعليم في البحرين منظما ومرتبا بشكل متقدم. وقد وقع اختياري لدراسة تخصص المعلمين، وكنت أول من يختار هذا التخصص في دفعتي. فدرست الأول والثاني ثانوي، وفي هذه الأثناء فتحت الدراسة في المستوى التوجيهي.
التحقت بعد ذلك للعمل في سلك التعليم. وأثناء عملي معلما واصلت دراسة التوجيهي. كنت في ذلك الوقت متزوجا ولدي ابن واحد هو خليل. وبالتالي كنت أعمل وأرعى أسرة في الوقت ذاته. كنت أبدأ بتحضير دروسي بعد عودتي من الدراسة الساعة الثامنة مساء حتى العاشرة. واستمر الحال كذلك إلى أن تلقيت اتصالا بأنه جرى قبولي لدراسة التوجيهي. وبعد انتهائي من دراسة التوجيهي أحرزت مركزا متقدما على في دفعتي، واستمرت المسيرة حتى وصولي إلى مرحلة الدكتوراة وقدمت رسالة بعنوان (التطور التاريخي لدولة المؤسسات في سلطنة عمان)، التي صدرت لاحقا في كتاب، هو الأول من نوعه، يتناول دولة المؤسسات في عمان وتطورها عبر قرابة ألف عام.
بدأت مشوارك الوظيفي معلما في البحرين، كدأب العمانيين الذين يسهمون في البذل والعطاء ونشر الخير أينما كانوا. لو تطلعنا على هذه التجربة؟
تدرجت في الدراسة وتنقلت من صرح تعليمي وعملي إلى آخر فقد اكتسبت في الوقت ذاته خبرة في مجال التعليم لمدة اثني عشر عاما، إذ ابتدأت بتدريس الصف الأول ابتدائي وانتهيت بتدريس المستوى الثانوي في البحرين.
وخلال هذه الأعوام انتدبتني البحرين للتدريس في إمارة الشارقة، حيث قضيت قرابة أربع سنوات، بعدها بثلاث سنوات انتقلت للعمل في منطقة تسمى «زاخر» في منطقة العين، لمدة عامين. عملت في منطقة زاخر إلى جانب زوجتي التي عملت مديرة لمدرسة البنات فيما عملت أنا في منصب نائب مدير لمدرسة البنين.
عام 1970 عدت مجددا إلى البحرين ومكثت هناك، في عام 1971 تلقيت اتصالا من الشيخ حمد بن عيسى الطائي الذي طلب مقابلتي للحديث معي بشأن العودة إلى السلطنة. وكان قبلها وصل إلى البحرين وفد رسمي من قبل صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم ـ حفظه الله ـ بعد توليه مقاليد الحكم في البلاد. وقد التقيت بالفريق الذي كان من بينهم الأديب الراحل عبدالله الطائي، رحمه الله، والشيخ سعود بن علي الخليلي، ويوسف بن علوي بن عبدالله، والشيخ محمد بن حمد الحارثي، والشيخ أحمد النبهاني، والشيخ هلال بن علي الخليلي، ومجموعة من كبار رجال الدولة الذين بدأوا بالبناء والتأسيس منذ مطلع فجر النهضة العمانية المباركة، والذين عمل أغلبهم لاحقاسفراء لبلادهم في بلدان مختلفة.
وعلى إثر ذلك عدت إلى وطني عام 1971م، ولم يكن في تلك الفترة أي شيء يذكر من الخدمات ومرافق الدولة ومؤسساتها العصرية، إلا أن عمان التاريخ والتراث والحضارة كانت ماثلة أمامنا، العالم لم يكن يعرف عنها شيئا، وبالتالي كان يتحتم علينا التعريف بها دوليا، حينما بدأنا العمل في السلك الدبلوماسي. وقد عادت عمان في هذا العهد الزاهر إلى ريعان شبابها وتليد أمجادها، ونأمل أن يستمر لعمان هذا التوهج والازدهار ودوام الشباب، ولن يتم ذلك إلا بإخلاص أبنائها وإيمانهم وبذلهم وتضحياتهم. فهذه الأجيال الجديدة هي زاد المستقبل وهي التي تقع عليها مسؤولية الحفاظ على مكتسبات عمان والارتقاء بها إلى أعلى المستويات. فالوطن لا يبنى إلا على ثلاثة أسس وهي الأرض والشعب والحكومة، هذه العوامل الثلاثة تتكامل فيما بينها لرفعة الوطن وخدمته، وهي الآن جميعها متوفرة وفي ترابط قوي.
تتحدث في كتاباتك عن بدايات قصة الحلوى العمانية في البحرين، وكيف نشأت عنها الحلوى البحرينية. هل لك أن تعطي القارئ نبذة عن الأمر؟
أود الإشارة في البدء إلى أن والدي كان أصغر من أخيه سيف حينما ذهب إلى البحرين في بداية القرن العشرين كان ماهرا في صناعة الحلوى العمانية، وقد تعلم صناعتها على أيدي الحلاوين في نزوى، كما تعلم على يد والده أيضا. وعندما ذهب إلى البحرين لم يجد مكونات الحلوى العمانية متوفرة هناك كالتي في عمان، مثل السمن العماني والقمح العماني والسكر الأحمر، وبالتالي استخدم بعض المكونات المتوفرة هناك، وأتت الحلوى مشابهة للحلوى العمانية إلى حد ما.
النقطة الثانية أن أول من صنع الحلوى البحرينية عماني، ولم يكن ذلك عام 1940م كما يذهب البعض، ولم تكن على يد بعض الأسماء التي أوردوها. فبحسب رواية والدي أن أول من صنعها هو أخوه سيف بن سعيد الصبحي وكان ذلك بين عامي 1918 و1920م، أي قبل أكثر من مائة سنة.
وكانت عائلة «الشويطر» على علاقة جيدة مع والدي، يلتقون ويتزاورون ويتجالسون. وكانوا يأخذون المكونات الأساسية للحلوى فأضافوا عليها بعض المكونات الأخرى التي شكلت فيما بعد الحلوى البحرينية بهويتها الحالية، وبقيت الحلوى محتفظة برونقها وعراقتها وأصالتها.
أما الحلوى الطحينية، التي يسمونها «الرهش» فأنا أذكر أن خالي حمود بن سالم الكندي هو أول من صنعها. وكان ذلك في خمسينات القرن الماضي، وكان هو الوحيد الذي يصنعها دون مساعدة من أحد. وبالتالي نستطيع القول أن هذين الاثنين (سيف وحمود) قد تركا بصمات واضحة على صناعة الحلوى البحرينية بنوعيها. وهذا جزء من أواصر الترابط العميقة بين السلطنة والبحرين، وأسميها مصاهرة التراث وتأصيله.
مشهد العودة
عند مجيئك السلطنة عملت في الميدان الإعلامي الذي كان في بواكير انطلاقته. كيف تتذكر تلك المرحلة؟
عندما عدنا إلى الوطن في عام 1971م لم يكن هناك إعلام بالمفهوم المعاصر، ولم تكن هناك مؤسسة إعلامية عمانية بل كانت هناك وزارة للإعلام، ولم يكن لنا حضور إعلامي داخليا أو خارجيا، فلم نكن في تلك الفترة قد انفتحنا على العالم الخارجي، ولم نُعرِّف بأنفسنا، بل إن الكثير من تراثنا خارج عمان قد طمس وللأسف. لذلك فقد توجب علينا في البدء إيجاد مؤسسة إعلامية، فقد كان يهمنا أن نكون جزءا من المجتمع الدولي.
أما في عالم اليوم فلا وجود لمفهوم الإعلام الداخلي، فنحن اليوم منفتحون على العالم، والدول تتعرض لحملات ورياح من كل مكان، حتى إن أجهزة التصنت يمكن إدخالها إلى بيتك دون أن تعلم. فلم يعد هناك ما يمكن إخفاؤه.
لذا يتوجب أن تكون لنا رسالة إعلامية محددة، فما هي تلك الرسالة التي نتحدث عنها؟ هذا ما يجب أن يحدده المسؤولون عن الإعلام في هذا البلد. لقد كانت رسالتنا سابقا في البداية تركز على التعليم، أو في الخارجية، لكي تكون لنا رسالة دبلوماسية سياسية واضحة، إذ كان يتعين علينا أن نوضح للعالم أن عمان دولة لم تنشأ عام 1970م، وإنما منذ آلاف السنين، وعمان جزء من هذا العالم، وكانت امبراطورية وحضارة عظيمة. لذلك كان هذا منهجنا وذلك هدفنا الذي حددناه بوضوح تام. إننا لا نريد إعلاما تجاريا، ولا نريد إعلام إعلان، نريد إعلام رسالة وهدف واضح.
في عام 1971م جاءت التوجيهات السامية لوزارة التربية والتعليم بضرورة افتتاح مدارس بعد ساعات الدوام الرسمي، فقلنا إنه لا تتوفر لدينا مدارس لاستيعاب هذه الأعداد من الراغبين حتى في الدراسة الصباحية، فقال جلالته «افتحوا المدارس ولو في البيوت». وخلال أسبوعين لم نجد أماكن للدارسين بعد الظهر. وقد رأيت بأم عيني امرأة تجاوزت الستين من العمر تحمل كتبها وتأتي للدراسة.
على هذه القاعدة بنينا مسيرة التربية والتعليم، وعلى تلك الأسس نضع قواعد للإعلام. إن صاحب الجلالة، حفظه الله، لم يوجه ببناء وزارة إعلام فحسب، وإنما جاء بنفسه ووقف على هذا الموقع، وحينما شاهد الموقع أشار بيده قائلا: «ما شاء الله. ما شاء الله. أريد أن أرى عمان هكذا دون نهاية»!
يجب أن نؤكد ان الإعلام بدأ بداية طيبة وقدم عملا وطنيا طيبا، إلا أننا الآن لا نريد التركيز على وزارة الإعلام فقط، وإنما نتساءل أين المؤسسات الإعلامية المساندة لها؟ مثلما هناك جهات مساندة للتربية والتعليم، فهناك مؤسسات تعليمية وتربوية خاصة، تعمل تحت الإشراف الرسمي.
لذا فإننا يتوجب علينا تحديد المنهجية والرسالة الإعلامية ووضوحها واختيار الأشخاص الذين يوصلون هذه الرسالة بكفاءة، والذين ينبغي أن يكونوا معدين إعدادا جيدا، حتى لا تستمر التجربة عكس ما نريد ونخطط له.
أنت من المطالبين برفع حرية سقف التعبير عن الرأي، ولك وجهة نظر جريئة تجاه قانون المطبوعات والنشر. فما هي وجهة نظركم في هذا الشأن؟
دعني أحدثك هنا عن تجربتي الشخصية في هذا الشأن. فعندما كنت في مجلس الدولة توليت رئاسة لجنة الإعلام والثقافة لمدة أربع سنوات، وأول ما طلبت مراجعته حينها هو قانون المطبوعات والنشر، وطلبت من كل واحد من الأعضاء أن يقوم بدراسة القانون وموافاتنا بملاحظاته. وبعد قرابة أسبوعين اجتمعت اللجنة وأخذنا في دراسة ومراجعة قانون المطبوعات والنشر مادة مادة، ورفعنا ملاحظاتنا إلى مكتب مجلس الدولة، ثم تلقينا الملاحظات على مقترحاتنا، وقمنا بتعديلها نهائيا. وقد عرض القانون على الجلسة العامة حيث جرت مناقشته بدقة من قبل أناس متخصصين، وانتهى الأمر برفع الموضوع إلى مجلس الوزراء الموقر.
لا أرى أن هناك حاجة لقانون المطبوعات والنشر. ومن يحل محله هو القارئ، فإما أن يقذفك بحجر أو أن يقول لك شكرا، وعليك أن تتحمل وتتقبل في كل الحالات، فهذه هي الديموقراطية. توضع مبادئ أساسية لمن يمارس الكتابة أو يقدم محاضرات أو غيره. ولا بأس من قراءة الكتاب ومراجعته من قبل جهة مختصة، ولكن السؤال: من الذي يتولى القراءة ويتصدى لمهمة المراجعة؟ ففي بعض الأحيان يعطونك ملاحظات لا تقبلها كمؤلف، وهنا يدخل الضمير والوطنية واحترام عقل القارئ وفكره.
أرى بأنه ينبغي أن توضع خطوط رئيسية فقط، وعلى الكاتب أو المؤلف أن يتبع هذه الخطوط. لماذا عقوبة السجن؟ نسجن من؟ أنسجن كاتبا؟ إننا هنا بين أمرين، إما أن تقبل بكتابي أو لا تقبله. يجب أن تكون هناك حرية، ويجب أن يكون سقفها واضحا. علينا أن نبني الفكر، وليس الحبس أو الغرامة له، بعد نصف قرن الرؤية واضحة والتجربة سديدة ونحن جزء من هذا العالم.
في كتابك (من ذاكرة الزمن) كنت صريحا في دعوتك بأنه قد آن الأوان للانتقال إلى الديموقراطية. هل لك أن توضح لنا هذه الرؤية؟
نحن نتحدث عن مرحلة التحول، وهناك مرحلة فكرية ومرحلة استعداد وغيرها، ولم أقل أن ننتقل ابتداء من الغد. نحن الآن لدينا مجلس شورى ولديه صلاحيات تمنح العضو حق التعبير ليقول كل ما يريد، ولا أحد يمنعه من إبداء رأيه، وإنما عليه أن يراعي ربه وضميره ومصلحة الوطن. ولكن أن يتحدث العضو بشيء يضر بالوطن أو أن الوطن ليس مستعدا له حاليا فهذا غير مقبول. وأرى أننا إذا كنا بعد نصف قرن ما زلنا غير مستعدين، فإننا نقول لصاحب الشأن أن كل ما أنجزته لم يحقق شيئا.
إننا مستعدون، وبكل الطاقات والإمكانيات، شريطة أن يقتنع صاحب الأمر، وهو مقتنع، وقد وضع المراحل، ونحن نعلم أن المراحل لديه واضحة. بدأ بمجلس مكون من مواطنين ومسؤولين في الوزارات ومجموعة من المختصين، ثم بعد ذلك أمر بتسميته «مجلس استشاري» وكان يرأسه الأخ خلفان بن ناصر الوهيبي. بعد ذلك تحول إلى «مجلس الشورى»، ثم بعد ذلك ارتأى جلالته بأن يكون لدينا مجلسان، وذلك على غرار البرلمان الإنجليزي المكون من مجلسين. يتبقى لدينا شيء واحد وهو إعطاء الحرية لمجلس عمان، ليتولى مهمة وضع القوانين والأنظمة ثم يرفعها إلى المقام السامي. ولا يحتاج المجلس إلى أن يرجع إلى أي جهة أخرى سوى صاحب الشأن، والذي يكون بذلك قد تنازل عن كثير من صلاحياته للمواطن. وهذه في حد ذاتها تعد نقلة برلمانية وديموقراطية كبيرة. ويتبقى فقط أن على أعضاء مجلس الشورى أن يحددوا ماذا يريدون، حتى لا يخرجوا عن نطاق المقبول في المناقشة. ويجب أن تمارس السلطات الثلاث صلاحياتها بكل حرية، وأن يكون هناك تعاون بين هذه السلطات الثلاث في مصلحة الوطن، دون تداخل أو تعارض. السلطة القضائية والسلطة التشريعية والسلطة التنفيذية وحريتها محدودة ومحددة من قبل جلالة السلطان المعظم حفظه الله ورعاه.
من خلال تجربتك في مجلس الدولة. كيف ترى هذه التجربة البرلمانية العمانية، وما هي ملاحظاتك في تطويرها؟
مجلس الدولة هو مجلس حكماء، أو مجلس استشاريين يستفاد من خبرتهم في كل المجالات. ولكن يتعين أن نحسن اختيار هؤلاء الناس، وعندما يحسن اختيارهم يكون عطاؤهم مبدعا، ونحن لا نريدهم أن يبدعوا في شيء مستحيل وإنما في شيء ممكن. ويجب أيضا أن يحظى رأيهم بالاحترام. وأقترح تعديل نظام مجلس الدولة، بحيث يتاح للعضو الذي يرغب في الاستمرار في عضوية المجلس حرية البقاء، أي ليس من الضرورة تقييد فترة العضوية بأربع سنوات. ولكن إذا وصل العضو إلى مرحلة لا يستطيع أن يقدم فيها شيئا فعندئذ لا فائدة من وجوده، ولسنا في هذا الإطار مبتدعين لأن البرلمان الانجليزي وهو أقدم البرلمانات يعمل على هذا الأساس.
في كتابك «من ذاكرة الزمن» أيضا تحدثت عن عدم استثمارنا بالشكل الأمثل لموقع عمان الاستراتيجي. ما هي الأسباب، وماذا خسرنا بذلك؟
أغلب اهتمامنا خلال السنوات الماضية كان ينصب على إيجاد البنية الأساسية، ونسينا أن الموقع الاستراتيجي هو جزء من هذه البنية.
أثناء الحرب العراقية الإيرانية كان هناك مشروع خليجي لمد أنبوب لنقل النفط ينطلق من الكويت مرورا بالمملكة العربية إلى السعودية والإمارات وينتهي في الدقم، لتكون الدقم ميناء عالميا لتصدير النفط. ولكن هذا المشروع ذهب أدراج الرياح لأسباب قيل حينها «أمنية» وغير ذلك.
وكان هناك أيضا يدور حديث حول مشروع المناطق التجارية الحرة، وكان الاهتمام يتوجه إلى صحار، باعبتارها ميناء قريبا من دول مجلس التعاون ما يسهل عملية التصدير عبر الخليج ومضيق هرمز الذي تشرف عليه عمان. وأيضا توقف هذا المشروع لذات الأسباب. لقد كانت نظرتنا لهذه الموضوعات نظرة ثانوية، فقد توجهنا لبناء البنية الأساسية للدولة كالشوارع والمرافق الأخرى، ولكن لم نتجه إلى المشاريع التي تستثمر إمكانيات الدول الأخرى مثلما فعلت الكثير من الدول. فخذ مثلا سنغافورة التي أصبحت ثاني ميناء في العالم، فهي لا تعتمد على سنغاوفرة وحدها، وإنما معظم الدول حولها تساهم وتعتمد عليها. ومثال آخر هولندا وهي دولة صغيرة، ولكن أمستردام أصبحت الميناء الأول في العالم.
لقد كان بإمكاننا أن نكون الميناء الأول في العالم، لأن كل التجارة الواردة من أمريكا وأوروبا تمر عبر بحر العرب، ونحن الواجهة على التجارة الدولية في بحر العرب. إن عمان إلى جانب الموقع الاستراتيجي تنعم بالأمن والاستقرار، ونرى الآن العديد من الدول قد جاءت للاستثمار في عمان مثل اليابان والصين، وهناك مشاريع جيدة ولكن الخطوة جاءت متأخرة، فهناك من سبقنا في هذا المضمار.
النهج العماني ومجلس التعاون
تقلدت مناصب دبلوماسية مهمة وأنت على دراية تامة بالنهج الدبلوماسي العماني الذي خطه صاحب الجلالة في السياسة الخارجية. نرى في أغلب الخلافات العربية سوء فهم لمواقف عمان، ويتكرر ذلك دائما وفي كل صراع. ما سبب ذلك من وجهة نظرك؟
نحن لا نحتاج إلى التعريف بسياستنا، فنحن اخترنا هذا المسلك ونحن نعرفه، ويحظى باحترام العالم. ولكن هذه ليست المرة الأولى التي يساء فيها فهمنا. فحين وقفنا مع أنور السادات في حربه وحينما ذهب إلى إسرائيل اتُّهِمْنا وتم الوقوف ضدنا.
وهنا أروي لك شيئا ربما لم يقله أحد قبل ذلك. فقد قال السادات في أحد خطاباته أنه كانت هناك شحنة من القمح كان القذافي قد وعد بأن يرسلها لمصر، ولكن حينما وصلت إلى منتصف الطريق اعتذر للولايات المتحدة الأمريكية عن دفع ثمنها. فوصل الخبر إلى مولانا حفظه الله ـ وليسمح لي بالحديث عن هذا الموقف الإنساني. فتواصل جلالته مع الجانب الأمريكي وأبلغهم بأن التحويل المالي سيصلهم قبل وصول الشحنة إلى مصر. فقال السادات لشعبه أن الذي حماهم من الجوع رجل اسمه قابوس بن سعيد، سلطان عمان. فهل ذكر أحد مثل هذه المواقف للسياسة العمانية؟
لقد قيل الكثير، فقيل إننا ضبابيون وغامضون، وحاولوا عزلنا، ولكنا كسرنا العزلة، وانطلقنا، في نهجنا الواضح، دون ضبابية أو غموض. مشكلتنا أننا مع الحق. ونحن نقبل بذلك. فإذا كانت هذه تهمتنا فلتكن. وأطلب من إعلامنا وصحفيينا وكتابنا أن لا يدخلوا أنفسهم في قضايا لا معنى لها. فالمرء حينما ينبري للدفاع عن موقفه فإن ذلك يعني أن موقفه ضعيف.
باعتبارك توليت منصب الأمين العام المساعد للشؤون السياسية بالأمانة العامة بمجلس التعاون لدول الخليج العربية. كيف تقرأ الصراع الدائر الآن في البيت الخليجي، وما هو الجانب الخفي من هذا الصراع الصارع؟
منذ تأسيس المجلس كنا نرى أن مجلس التعاون أسس لخدمة المواطن ومصالح المواطنين، ويجب أن ينأى بنفسه عن المصالح الشخصية سواء كانت بين الدول أو بين الحكام أنفسهم. فإذا كان هناك أمر يخص مجلس التعاون فنتعاون فيه جميعا، أما حينما ندخل في مواضيع وآراء وخلافات شخصية تخرج عن مصالح المجلس فإن هذا يشكل خرقا للنظام الأساسي الذي وقع عليه الزعماء الستة في أبوظبي في الخامس والعشرين مايو 1981م.
إن أي ممارسة لا تنتهج منهج المصالح الكلية، هو خرق للنظام الأساسي. وليقرؤوا النظام ويتمعنوا فيه. لقد أسس المجلس أهدافًا ولكن للأسف الشديد إنها لم تتحقق، لأن المجلس خرج من المصالح العامة للدول والشعوب إلى المصالح الخاصة، وأصبح كل يفكر في مصلحته الخاصة التي سادت على المصالح المشتركة.
كما أن السياسة الخارجية للمجلس اخترقت وللأسف. وقد كانت هذه السياسة مبنية على أن أي دولة تعتزم القيام بعمل أن يمر عبر المجلس. ومثل على ذلك الخلاف الذي دار بين البحرين وقطر، فقد عرض على المجلس، الذي قام بدوره حينها، وقد تم تشكيل لجنة لمعالجة الموضوع، وقد بذلت فيه جميع الأطراف جهودا طيبة، وكان مولانا جلالة السلطان أحد الوسطاء بين الدولتين الشقيقتين. ترى أين ذهبت مثل هذه الممارسات؟ لقد تم تجميد النظام الأساسي وبدأ تشكيل مجالس ثنائية بديلة. وصار المجلس مثل جامعة الدول العربية والأمم المتحدة وكل المنظمات التي على هذه الشاكلة.
إذن كيف تنظر إلى مستقبل هذا المجلس؟
دعني أضرب لك مثلا، إذا كان لديك صحن وتعرض للكسر، فما الذي يبقى منه؟ إننا الآن أمام حالة عزل دولة من دول المجلس وما تبع ذلك من المجريات. هب أنه جرت المصالحة بين هذه الدول بعد كل ما جرى، كيف ستعود الأمور إلى سابق عهدها بعد هذه القطيعة؟
إننا نتمنى أن يرجع المجلس فاعلا ومؤثرا، ولكنه طالما لم يحقق طيلة هذه السينين هدفه الرئيسي في الاندماج والانصهار بين الشعوب والحكومات، فماذا تحقق إذن؟ حتى المشروعات المشتركة التي كنا نتوقعها لم يعد لها ذكر، وأسأل المسؤولين في دول المجلس: أين هي المواطنة الخليجية؟ أهي لوحة علقت في المطارات؟!.
في ظل التوجهات الحالية للسياسة الأمريكية نلمس هناك تحولا من الدول العربية باتجاه الصين، في حين نرى كتابات تحذر من مستقبل «التغول» الصيني في المنطقة اقتصاديا وثقافيا وربما عسكريا في وقت لاحق. ما هي قراءتك أنت للمشهد؟
أعتقد أننا نحن العرب غير قادرين على تقييم أنفسنا بشكل صحيح. أقول هذا وأستذكر حينما ذهبنا نحن العمانيين للصين في بدايات النهضة المباركة. كنا حينها دولة حديثة الانفتاح على العالم. وفي تلك الفترة لم نكن نتكلم عن مساعدات أو ما شابه ذلك، وإنما كنا نتكلم عن تجارة خارجية بيننا وبين الصين. وقد تم تبادل الزيارات والوفود منذ ذلك الحين، إلا أنهم بدأوا نشاطهم التجاري معنا منذ سنتين فقط. لقد كانوا طيلة هذه الفترة يدرسون الوضع لدينا. الصينيون يدرسون الأوضاع ويقيمونها بشكل دقيق، وهم حينما يرون منطقة فيها ثورات وصراعات فإنهم لا يأتون للاستثمار فيها لأن رأس المال جبان وهو مثل الحمام.
الصين لا تسعى للتغول في الدول وفقا لما تروجه الصحافة، فها هي الصين تعمل في إفريقيا منذ خمسين عاما ولم تستعمرها. وقد بدأ الناس الآن يتجهون نحو الصين، لأنهم يشعرون تجاهها بالأمان، وهم «ملدوغون» من أمريكا والغرب، فأوروبا الآن تسمى القارة العجوز التي لا تمتلك الكثير، أما الأمريكان فقد بدأوا الآن يعودون إلى عام 1880 ونحوه، حيث عادوا للانغلاق إلى ما غرب الأطلسي، أو ما يسمى مبدأ مونرو. لقد انتهى الآن زمن «التغول» وغيره. هذه التعبيرات من الأربعينيات، أما الآن فهناك مصالح، كل الدبلوماسية تقوم على مبدأ المصالح المشتركة والاحترام المتبادل.
في الختام وددنا معرفة كيف يقضي الدكتور إبراهيم الصبحي أوقاته الآن؟ وهل من كلمة أخيرة تود التعبير عنها عبر التكوين؟
أقضي أوقاتي بطريقة اعتيادية جدا. أسافر أحيانا إلى بعض الأماكن والمدن التي أعرفها وآلفها. أزور أصدقائي وأقاربي ومعارفي داخل السلطنة وخارجها. أمارس أعمالي في مؤسستي الخاصة. كما أخصص أوقاتا للقراءة والكتابة والمطالعة بشكل عام.
وفي ختام حديثي أود أن أوجه كلمة لأبناء هذا الجيل بأن يعتز بماضيه، وأن يستغل الفرصة المتاحة الآن في ظل الحاضر المشرق الذي يعيشه لبناء مستقبله. أنتم اليوم تعيشون الرخاء وتحظون بما لم نحظ به في السابق. لقد كانت الحياة شحيحة في زمننا. يخبرني أحدهم أن ميزانية الدولة حينما تولى صاحب الجلالة الحكم عام 1970 كان فيها خمسون ألف روبية فقط. أما اليوم فنحن نتحدث عن مليارات وبليارات وأرقام كبيرة. ورغم ذلك فإن هذه الثروة ناضبة وغير دائمة، وبالتالي فإن المواطن يعد هو الثروة الحقيقية الثابتة وتحية إجلال وتقدير أسجلها لمولانا صاحب الجلالة السلطان المعظم سائلا الله أن يحفظه ويديم عزه، وأن يحفظ عمان وشعبها بسلام وأمن ورخاء.