الثقافي
عبير سليمان: الخيبات كفيلة بخلق اللحظة الشعرية
قصيدتها تتدفق دهشة وحنانا. ثمة ألفة متناهية في نصوصها تستدرجك إلى النهاية بذكاء مخاتل، فما إن يقودك الوهم إلى تخوم النهاية حتى تنتفح أمامك ملايين السكك والسماوات والأرصفة الملأى بالضجيج والأصوات والوجوه والملائكة والكائنات المتراكضة، التي يتحتم عليك أن تلاحقها جميعا كي تصل إلى بوابة ربما تقودك للبحر أو الصحراء أو السماء أو الهاوية.
إنها الشاعر السورية عبير سليمان، التي تزخر تجربتها بعدد من الإصدارات الشعرية النوعية التي حجزت مقعهدها كإحدى الشاعرات البارزات في المشهدين السوري والعربي. وأبرز هذه الإصدارات (رسالة من بيدق ميت) و(ونفخ في الناي) و(لن أسرق البحر). عبير سليمان أيضا حاضرة بوضوح على المستوى الإعلامي وفي الفعاليات والمهرجانات الشعرية والثقافية في سوريا والوطن العربي.
في هذا الحوار تفتح عبير سليمان قلبها لـ (التكوين) وتتحدث عن رؤاها وتجحربتها في الشعر والثقافة والحياة.
مهندس الجنة
حين تتحدث عن البدايات الأولى التي يقرر فيها الشاعر أن يسلك متاهات القصيدة ويمضي بعيدا دون رجعة، ترى عبير سليمان أن ذلك يتم تلقائيا وبسبق إصرار من الشاعر على الذهاب في هذا التيه الجميل، فهو أمر تلقائي كما يحدث أي بركان أو هزة كونية عظمى في هذا الوجود، فتقول: لا أؤمن بوجود انقلابات في إيقاع الحياة، ليس هناك تحولات فجائية بل تراكم ظروف وأحداث تدفعنا دفعاً نحو التغيير؛ فتفاقم الخيبات والخذلانات الناتجة عن السياقات التقليدية كفيلٌ بخلق اللحظة الشاعرية الملائمة.
“الشاعر مهندس الجنة” لا أذكر أين قرأتُ هذه العبارة لكنها تليق بكثيرمن الشعراء الذين أعرفهم؛ إنّ الشعر لا يقرر إعادة بناء العالم، لكنك تلمس ذلك بين كلماته؛ حتى تلك المفعمة بمصطلحات الهدم منها.
بعد أن سلكت صاحبة (ونفخ في الناي) فجاج القصيدة، وتكشفت أمامها الحقائق وواجهتها الأسئلة والهواجس المرة، إلا أنها تجاوزت ذلك كله وبقيت متمسكة بجمرة الشعر اللاهبة. توضح ذلك قائلة: الهواجس رفيقةٌ لا يمكنني التخلص منها، شريكة سكنٍ مزعجة؛ بلى شككتُ كثيراً بجدوى الشعر وقررتُ مراراً اعتزاله، لكنه يجيد العودة دوماً، يريد الحياة حتى في أشد المطارح عتمة وموتاً، إنه عنيدٌ كشعاع شمس يلسع جفنيك النائمين قائلاً : “استيقظ من سباتك البائس واعتنقني”.
لم أتبنَّ أبداً خيار الكتابة، أفعل هذا بتلقائية من يأكل ويشرب ويتنفس، كما لم أتبنَّ القطّ الذي اقتحم بيت أهلي قبل حوالي ثلاثين عاماً، كان يجلس ويغفو ويأكل حيث نكون، صار فرداً من العائلة دون أخذ رأينا بهذا الأمر.
بلاغة السهمثمة مبررات أخرى لدى الشاعرة عبير سليمان في مواصلة المسير في ممر الشعر الطويل المخاتل: “رُبما لأنه بليغٌ كسهمٍ ينفذ نحو الصدر، كالبرق يلمعُ لثوانٍ مبشراً بعاصفة مطرية طويلة، ينقضُّ كنسرٍ واثق يخطفُ قلبكَ ويمضي دون التفات.. أحبّ أدب القصة القصيرة التي كتبتها دون قصد غير مرة، أحبّ أدب الرواية كذلك؛ لكن خوض غمارها بصيغة ترضي طموحاتي يحتاج أخذ إجازة طويلة من الالتزامات والواجبات الشخصية و هذا غير متاح لي في الوقت الراهن.
القصيدة ترتبط بانفعالاتي ونزقي ورغباتي، ويوم أفقد الشغف، سأتوقف بلا تردد أو أسف.
الشعر لدى عبير سليمان هو الفضاء الذي تتوحد فيها المعاني والأسماء والدلالات والقيم الإنسانية السامية، بعيدا عن أية اعتبارات أخرى كاللون والجنس والذكورة والأنوثة وغيرها، على حد قولها: “أرى في فصل الأدب إلى جنسين إجحافاً بحق كل الإبداعات المبهرة التي أضافتها الكاتباتُ إلى عالم الشعر، خصوصاً عندما يتناول النقد النصوص المكتوبة بنزعة شخصية دون سواها, لا أحد مثلاً يحاسب الرجل عندما يطغى حضور الذكر في قصائده، و قلّما نلمح من يعترف بأن نساء كثر قدمن نصوصاً تعنى بكل شيء حولهن، أعزو الأمر أحياناً إلى كليشيه الأحكام المسبقة الحاضرة في ذهن الناقد العربي عموماً.
أناي الأنثوية حاضرة في قصائد الحب والعاشقات والأمهات وهذا بديهي، باقي قصائدي يمكن لأي رجل أن ينسبها إليه دون قلقٍ جندري الطابع، لأنها تحكي الواقع والإنسان بالمطلق.
اضطراب العوالم
قصيدة عبير سليمان طافة بالجنون والتمرد، تبحث عن الفكرة لتهشمها وتفتتها وتعيد صياغتها وفقا لما يتجلى لها لحظة الانفعال أو الكتابة، وهي في الوقت ذاته تبدو في قصيدتها هادئة ساكنة كبركان أزلي. تقول عبير: “الجنون آت من جموح فطري ينزع للتوغل والتحليق في جميع المدارات المتاحة؛ في الأغوار العميقة الخفية عن الأعين تفهم كنه الكون، هذا يجعلك أقلّ اندهاشاً وهشاشة حين تضطرب العوالم حولك، ما يمنحك السكينة والقدرة على الضحك والسخرية رغم هول ما يحدث؛ فبعد كل حريق هائل ثمة بدايات جديدة ، شِعري لا يحفل بالحريق بل بمن يجري إليه و ما يجري بعده.
يختلف المبدعون في النظر إلى الشعر وتوصيفه كل حسب تجربته ورؤاه. أما عبير سليمان فلها موقف من ذلك توضحه قائلة: “لا أقرأ عبارات المبدعين الكبار بتسليم غير مشروط، أميل بطبعي للتشكيك والنقض والمحاكمة، فإما القبول بعدها وإما الرفض. “الشعر عذابات هائلة” عبارة مكتوبة على أحد وجوه الموشور؛ ثمة عبارات لا تقلّ حضوراً في معادلة الحقيقة: فالشعر انعتاق، والشعر جناح، الشعر طريق وقنديل، والشعر أحياناً يسعى لردم الهاوية التي تضخ عذاباتنا الهائلة وتؤججها.
كالكثير من المبدعين تتحدث عبير سليمان طقوسها في الحياة، لاسيما التوق إلى العزلة قائلة: “الجنوح إلى العزلة طبعٌ أصيل عند غالبية المبدعين، إنه سبب وسبيل قبل أن يكون نتيجة أو خيار. العزلة تنقذنا من شبه فادح مع الآخرين، من حرائق تندلع خارج الأسوار، من جنّات لا تفتح لنا الأبواب.. العزلة تطير بنا من هذا الفراغ القاحل إلى ذاك الفراغ الخصب.
وتضيف عبير سليمان: أزعم أنني صنعتُ عالماً بديلاً أعيش فيه، أحياناً أدعو أمكنته وأزمنته ومخلوقاته إلى قصائدي، بتعبير أفضل: لم أجلب شيئاً من العدم؛ أنا أعيش ما أكتب…. وأَعذْب شعري أَصْدَقُه.
المطارق غير كافيةوتستطرد صاحبة (لن أسرق البحر) في حديثها عن الحميم والمتفائل عن الشعر فترى أنه: حاضر في كل مكان وزمان، أوقن أنه باقٍ رغم هبوب الرداءات التي ذكرتها، الشعر برجٌ رغم أنف الرياح.
وهي تطالب القصيدة بأن تحمل مطرقتها وتطرق بعنف على رأس القبح من أجل إعاداة الجمال لهذا العالم: فات الأوان على الترميم، على القصيدة أن تهدّ الأبنية المتصدّعة قبل أن تسقط على رؤوس الجميع، فإذا لم تكن تملك المطارق الكافية، عليها إطلاق نداءات الاستغاثة والتحذير.
وأخيرا تتطرق عبير سليمان إلى النقد الأدبي وظاهرة الشللية التي أفادت فضاء النقد وظلمت المبدع الحقيقي فقتول: نقد الشلل ظالم إلى حد بعيد، شلل الأدب الرديء وشلل الأدب المسيسة وشلل خصوم الكار الكيدية .. إلخ.
لكن ولحسن الحظ هذا يترك لنا أقلام النقد الخالية من كل الشبهات السابقة، الأقلام المعنية بالنص بعيداً عن أي اعتبارات سوى الفنية والجمالية.
وتختتم عبير سليمان حديثها قائلة: أعتبر شعري محظوظاً بقراءة الأسماء التي تهمني في هذا المجال، فنقدها أضاف لي وقدمني إلى قراء جدد، أنا محظوظة جداً أيضاً بأن نقاد الشلل وشعراءها بعيدون تماماً عني.
نشر الحوار في العدد (30) من مجلة التكوين…