السياحي

بيت الباروني أول «إسكول» في الداخلية

حمود بن سالم السيابي 

هذا أول «إسكول» في الداخلية إلا أنه احتاج لتسعين عاما من تاريخ وضع حجر الأساس ليبدأ عامه الدراسي الأول، وقد تبدلت خلال السنوات الوجوه والمناهج والفلسفات والسياسات والعهود والرايات.
وهذه أول مدرسة عصرية في الفيحاء إلا أن طابور الصباح لم يستفتح بالنشيد الوطني، ولا جرسها تم قرعه ليعلن بدء وانتهاء الحصص إلا مع إشراقات العام الأول للنهضة العمانية المباركة عام ١٩٧٠م.

جاء المجاهد سليمان الباروني إلى عمان بحلم كبير يطاول جبل نفوسة، واختار لمشروعه سفح جبل شرجة الإبراهيمية بسمائل فتعانقت الجبال.
وحين فاتح الباروني إمامه الخليلي بمشروعه التنويري نال على الفور موافقة الإمام ومباركة الشيخ عيسى بن صالح الحارثي.
إلا إن التيار المحافظ في الدولة عارض الفكرة بقوة، بل وسعى سعيه وكاد كيده لإجهاضها بكل ما أوتي من نفوذ متحججا بوجود مئات المساجد، وبها الكفاية لإقامة حلقات الدروس دونما حاجة لإضافة أعباء مالية جديدة على الخزينة الخاوية.
وقد أوغر التيار صدر الإمام وناشده بعدم السماح للباروني بالعبث في البلاد بإقامة «إسكول النصارى» في بلاد المسلمين.
كانت صدمة الباروني قوية في المعترضين، إلا أن قدرته على امتصاص الصدمات كانت الأقوى، فترك الهرج والمرج في نزوى وعاد إلى الفيحاء على وجه السرعة ليضع مخططا لمرافق المشروع وتفصيلاته من غرف وممرات ومداخل ورواشين، وشرع حال وصوله في التماس ممولين من الغيورين على عمان والإسلام دون أن يضغط على خزينة الدولة الخاوية.
وقد ساقت العناية الإلهية الشيخ سليمان بن ناصر اللمكي أحد أثرياء عمان في زنجبار لتضعه في طريق الباروني فيتبنى الثري العماني المشروع ويحتضن الحلم وينهض به.
أرسل الباروني المخطط للشيخ اللمكي في زنجبار وبدأت تحويلات الدعم السخية تتدفق إلى سمائل عبر وكيل له في مسقط.
وكانت أولى الدفعات بلغت ٢٥٦٥ روبية، تلتها دفعة ثانية بقيمة ٣٥٩٥ روبية، ثم التمس الباروني من ممول مشروعه الشيخ اللمكي مبلغ ٢٠٠٠ قرش، وزاد على ذلك في رسالته إلى الشيخ اللمكي «إن كان بمقدورك أن تجعلها ٣٠٠٠ قرش فيكون ذلك أحسن».
ولم يكن حماس البسطاء من أهالي سمائل بأقل من حماس الشيخ سليمان اللمكي فهبوا يجندلون نخيلهم وليوقدوا نار «المهبَّة» لإنتاج ما يحتاجه المشروع من الصاروج العماني.
وساقوا الحجارة من المقالع وفق المواصفات المطلوبة، وتسابقوا مع الوقت ليروا الحلم المنتظر يزهر.
وجاء اختيار الباروني للموقع وفق نظرة استشرافية، رغم أن أول اتصاله بسمائل كان بحلة «فاروه» في الثغر الشرقي للفيحاء حيث ديار زوجته الأميرة الجبرية السمائلية، ومع ذلك تخير للحلم لأن يكبر على بعد أميال فابتعد به إلى جنوب غرب سمائل.
واشترى لهذا الغرض مزرعة في شرجة الإبراهيمية ليقيم فيها سكنه الخاص، وضمَّ ما جاورها من حيازات زراعية ومساحات بيضاء لتتسع للمدرسة وما بعد بعد بعد المدرسة.
وفي صبيحة الرابع عشر من جمادى الأولى من سنة ١٣٤٧ للهجرة كان الباروني يستقبل أهل سمائل في الإبراهيمية ليشاطروه الفرح ببدء العمل في المشروع الذي صُمِّمَ ليتكوَّن من طابقين. وقد مدَّ الباروني اللحاف بطول الفلوس المتوفرة فتمكن في السنة الأولى من إتمام الطابق الأول وأبقى العزم باستكمال الباقي قائما.
وبدا المشروع الذي اكتمل نصفه باذخا من حيث اتساع مساحة البناء وعلوه الحيطان.
وازدهى بالنوافذ الكبيرة التي تراوحت بين ست وثمان نوافذ على كل حائط.
واختار له بوابتين جهة الجدارين الشرقي والجنوبي.
وقد توسطت البوابة الرئيسية الجدار الشرقي ليكون الداخل منها في اتجاه القبلة كالكثير من بيوت العمارة الإسلامية، والثانية خصص كبوابة للخدمات وقد توسطت الحائط الجنوبي للمبنى .
وتنفتح البوابة الرئيسية على ردهة تقود الداخل إلى قاعات المدرسة ومرافقها الإدارية وتنتهي بدرج يوصل إلى الطابق الثاني الذي لم يستكمل إلا في المرحلة الثانية من الترميم.
وجاءت الواجهة الخارجية باذخة فبدا البناء قصرًا شامخًا بصفَّين كبيرين من النوافذ ذات الإطار الخشبي وتتعامد عليها أسياخ من الفولاذ، ووراء الأسياخ حلت المرايا الزجاجية العاكسة كبديل لدرفات الخشب المستخدمة قديما في نوافذ العمارة العمانية.
وقد أحاطت الحدائق الفسيحة بالمبنى من جهاته الأربع إحاطة السوار بالمعصم.
هذه مدرسة الباروني إذن ..
وهنا حيث أقف الآن كانت مراجل الأرز واللحم تغلي تحت نيران «زور» النخيل وحطب السمر.
وهنا وقف العملاق الليبي بطربوشه التركي الأحمر ودجلته التي تليق بقامته الشامخة وبخنجره الأنيقة وشاربه المفتول كشوارب رجالات الدولة العثمانية ليطاول شموخ مشروعه.
وعند هذه المساحات من فناء البناء مدَّ الباروني في الرابع عشر من جمادى الأولى سنة ١٣٤٧ البسط لضيوفه ليتشاطروا الحلم والأمنيات.
لقد جاءتْ سمائل عن بكرة أبيها لتصافح «صهرها» الليبي الذي جاء إلى عمان ليبحث عن جذوره العربية المتداخلة مع الأرومات العمانية فصاهر جبور سمائل وأقام بينهم لسنين.
وجاء الجميع استجابة لدعوة الباروني فأكلوا وشربوا، ودارت فناجين القهوة المعتقة بالأمنيات والعهود لأن يعملوا معا لإتمام هذا المشروع.
وكانت الفرحة بوضع حجر الأساس تعادل فرحة قدوم المجاهد إلى عمان الذي يقابل دومًا أينما حل وارتحل بالمدافع التي تطلق وبالنوق التي تنحر وبالفرسان الذين يتسابقون وبالشعراء الذين يدبجون القصائد في المجاهد الكبير، فكانت مناسبة وضع حجر الأساس مهرجان فرح جديد بالمشروع وسيد المشروع.
وأقفُ في ظلال بيت الباروني الباذخ لأتقصى حكاية «الإسكول» العماني الأول مستعينًا بشواهده الباقية في المكان، ومتصفحًا أوراق ابنته زعيمة البارونية التي ورثت كل انتصارات المجاهد وهزائمه و نجاحات الأب وخيباته.
وأتجولُ في تفاصيل بقايا المكان لأعيدَ تشكيل المشاهد وفق سياقات السرد كما حفظتها الصحائف والمخطوطات العمانية والليبية عن الباروني.
ولم تكن مدرسة الباروني مجرد مدرسة عادية، بل أعدَّها لأن تكون نقلة كبيرة وخطوة متقدمة تجعل الذين وضعوا الكثير من العصي في العجلات سيندمون لمعارضتهم للمشروع الذي لن يتوقف عند مدرسة سمائل بل سيتمدد لسلسلة من المدارس في أنحاء البلاد وليتكامل مع مشاريع ستضم لا حقا مكتبات ومستشفيات ومطبعة للدولة.
وأراد البادوني أن تكون بداية مشروعه قوية فسعى للتعاقد مع كفاءات كبيرة أمثال أبي إسحاق اطفيش وأبي القاسم الباروني وسعيد بن قاسم الشماخي إلى جانب اتفاقه مع الدكتور بشير الجمال أحد أطباء عشرينيات القرن الماضي في سوريا لتقديم دروس في الطب والجغرافيا والحساب والخط إلى جانب تكليفه بوضع تصور لأول مستشفى في داخلية عمان.
إلا إن الرياح جاءت للأسف وفق اشتهاءات سفن التيار المعارض لإقامة «الإسكول»، فقد خذله الأشياخ اطفيش وأبي القاسم الباروني والشماخي باعتذارهم عن المجيء إلى عمان لارتباطهم بأعمال بحثية تخدم الإسلام، ووحده الطبيب السوري الذي استجاب للدعوة ووصل سمائل وباشر العمل بالفعل متخذا جزءا من مكان إقامة الباروني في المزرعة كمستوصف صغير لمداواة الناس الذي يقصدونه إلى جانب الإشراف على مشروع المدرسة.
إلا أن مرضًا عضالا داهم الطبيب السوري فتوفي بسمائل في العشرين من شعبان سنة ١٣٤٧ ودفن في مقبرة الرفيعة جنوبي مدرسة الباروني، فكانت الوفاة مؤلمة للباروني ومربكة للمشروع إذ جاءت في وقت هو أحوج فيه إليه بعد أن أناط بالدكتور السوري مهام الإشراف على سير العمل وتغطية الغيابات المتكررة للباروني ما اضطره لأن يتولى بنفسه الإشراف على كل صغيرة وكبيرة بنفسه.
وحين استدعته نزوى ليكون ضمن مرافقي الإمام الرضي الخليلي في «جولته بالجهة الغربية» لم يجد الباروني من يغطي غيابه فتوقف المشروع كليا على أن يستأنف العمل بعد عودته من المهمة مع الإمام.
وكان القاصم لظهر البعير اشتداد المرض على الباروني وامتداده لأولاده ما استوجب السفر للعراق لمراجعة الأطباء الذين نصحوه بالبقاء في بغداد، إلا إن المدرسة ظلت شغله الشاغل في إجراء الإتصالات لإعداد هيئة تعليمية بديلة بعد اعتذارات الأشياخ الكبار وتوفير احتياجاتها من كتب المقررات الدراسية والقرطاسية وبقية الأدوات المدرسية وذلك بالتواصل مع وزارة المعارف العراقية التي أمدته بالكثير من الدعم الفني.
وأبرق للسلطان خليفه بن حارب لموافاة مكتبة المدرسة بنتاجات المطبعة السلطانية بزنجبار من أمهات كتب المذهب ودواوين الشعراء.
وقد تكررت أسفار الباروني وطالت مرات غيابه، وكلما عاد اتخذ المدرسة مقرا إداريا يتواصل منه مع المحيط العربي وليستكمل فيه بقية التعاقدات لعل الله يؤذن بانفراجة في تعقيدات المشهد السياسي المنقسم والمأزوم في دولة الإمامة والذي انعكس بالسلب على مشروعه، وتسبب في انتكاسات صحية ونفسية عليه وعلى أسرته، ما جعله يتريث في بدء العام الدراسي رسميا والذي كان مقررا له أن يبدأ في الثاني عشر من ربيع الأول سنة ١٣٤٨ تيمنا بذكرى سيد البشر وخاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه فاقتصر التعليم على عدد من محدود جدا وبشكل غير رسمي فيما بدأ المجاهد سليمان الباروني يتسحب رويدا رويدا من المشهد السمائلي بل ومن المشهد النزوي ليبقى أغلب الوقت في مسقط.
وقد اظطر الباروني لأن يبيع بيته أو مدرسته لأحمد بن حامد بقيمة ١٣٠٠ قرش، وقد تم البيع بموجب مكاتبة بخط الباروني وصادق عليها الإمام الرضي الخليلي وعدد من القضاة والأعيان.
وفي ربيع عام ١٩٤٠ اختاره جلالة السلطان سعيد بن تيمور لمرافقته في زيارته الى الهند ولتكون فرصة له لمراجعة الأطباء بمستشفيات بمبي فقدر الله أن تسلم روحه لبارئها هناك في الاول من مايو من عام ١٩٤٠ م.
وبدلا من ان يعرض الباروني نفسه على الأطباء ليبثهم أوجاعه اذا بالموت يسبقه إليهم فمات إثر سكتة قلبية في بمبي وليرتكز لواء في أرض لطالما لمعت كدرة في التاج البريطاني الإستعماري وهو المجاهد المشتعل بكل نزق الثوار.
ولقد كان أبي في تفاصيل خواتيم حياة الباروني، إذ بعث الامام الخليلي قيمة ما تركه المجاهد الباروني ليسلَّم لورثته فتولى والدي والشيخ علي بن عبدالله الخليلي والي بوشر نقل التركة لعائلة الباروني المقيمة بمسقط.
وحينما وصلا الدار طرقا الباب فلم يفتح لهما، وكررا الطرق كثيرا فلم يرد أحد، وظنا أن لا احد بالدار.
وفيما كان يهمان بالرجوع إذا بصوت خافت لامرأة يخاطبهما من وراء الباب، فابلغاها بأنهما رسولا الإمام الخليلي وجاءا بنصيب الأسرة من تركة المجاهد الباروني فطلبت صاحبة الصوت منهما وضع الامانة خلف الباب فتركاها هناك.
وأعود إلى حكاية «الإسكول» الباروني، فقد كان من حسن الحظ أن يشتريه الشيخ سعود بن علي الخليلي ليحافظ البناء على رمزيته التاريخية فالبيت الشامخ كان ملكا لشامخ ليبي ليتحول إلى شامخ عماني.
وفي سبتمبر من عام ١٩٧٠ وعمان تستشرف زمنها الأخضر السعيد كان بيت الباروني مجددا في مشهد رنين الأجراس ورائحة الطباشير فمالك بيت الباروني الشيخ سعود الخليلي يرتقي كرسي وزارة المعارف، فآثر ببيته لأن تشغله أول مدرسة بسمائل ترجمة للعنوان السامي «سنعلم أولادنا تحت ظلال الشجر « فكان بيت الباروني يومها أجمل أشجار سمائل الوارفة.
وكانت لفتتة من الشيخ سعود بن علي الخليلي وزير المعارف لأن يخلي بيته ليرى التعليم العصري يبدأ بسمائل.
ورغم أن أبا إسحاق اطفيش وأبا القاسم الباروني وسعيد بن قاسم الشماخي غابوا عن اليوم الأول للعام الدراسي، ورحل الدكتور بشير الجمال إلا أن الشيخ حميد بن عبدالله الجامعي هو الذي ملأ المشهد فحضر ليدرس مادة التربية الإسلامية في المدرسة الجديدة.
وجاء الاستاذ منصور بن حمود المشرفي ليتولى تدريس مادة اللغة العربية.
واختص عبدالله بن حمود المشرفي بالأمور الإدارية إلى جانب أربعة من الأساتذة الأجلاء من مصر ليدرسوا الجغرافيا والرياضيات وبقية المواد.
ولقد كان مشهد تسجيل الطلاب مثيرا كما يصفه الطالب خلفان بن سلطان البكري الذي بكَّر في الذهاب إلى المدرسة مع زميله سالم بن حمد الجابري ووراءهما طابور طويل من الرجال والنساء وقد اصطحبوا أبناءهم للتسجيل.
ولم تكن بالصفوف مقاعد ولا طاولات فافترش الأساتذة والطلبة البسط.
وامتلأ كل صف بأربعين طالبا جلسوا أمام حائط توسطته سبورة ليتنفس الطلاب ولأول مرة عبق الطباشير.
وبعد عام من عودة الروح للمدرسة وفاء لمؤسسها المجاهد سليمان الباروني غادر الطلاب المكان إلى أمكنة أوسع تتوافر لها متطلبات المدارس العصرية ليعود المبنى التاريخي من جديد إلى مقر سكني لمالكه الشيخ سعود بن علي الخليلي.
وكان المبنى على موعد جديد مع المجد حيث تفضل سيد عمان حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم وقام بتشريف المكان كزائر كريم للتاريخ الذي شعشع هنا، وللحلم الذي كبر هنا.
وكلما غشيتُ شرجة الإبراهيمية استحضرتُ المجاهد والحلم والفرح والخيبات.
وكانت آخر مراوداتي للمشهد الباروني خلال الإستراحة بين زمني ندوة موسوعة أمير البيان في بيت السبحية في أولى جمعات رجب الأصب من سنة ١٤٤٠ للهجرة حيث جئتُ لتحسس برودة الجدران وجمْر التاريخ.
ولا أجد أفضل ما أنهي به تطوافي في «إسكول الباروني» أو مدرسة الباروني أو قصر الشيخ سعود الخليلي من كلام الباروني نفسه عمَّا يجب أن يتركه الإنسان من أثر يُذْكَرُ به:

هــــذه آثـــارنـا فـــادعُ لــنــا
وقُـلِ الـمرء عليه الفـعـلُ دَلْ

(قيمة الإنسان ما يحسنه)
حكـمة سار بـها ركبُ الـمثـلْ

مثل ذا فليعملِ العاملُ أوْ
يـتــنـكَّــبْ جــهـةً أو يــعــتــزلْ

لا تباهي القومَ بالمالِ ولا
بـعـلوِّ الجاهِ أو سبكِ الجدلْ

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق