ليست الجبال وحدها الشامخة في السودان ولا نخيل “الدوم” وحدها العابرة للأفق ، فرجال السودان هم الأقرب للرماح العوالي في استهلال قصيدة صفية الدين الحلي.
وهم الذين إذا وقفوا ارتفعوا فوق رؤوس الواقفين ، وإنْ تحركوا فعمائمهم السحاب الذي يتنادى ليأتلف ويرعد ويبرق.
والصادق المهدي آخر الرماح العوالي منذ أن ظهر في خمسينيات القرن الماضي بين النيل الأبيض والنيل الأزرق أثر انقلاب إبراهيم عبود ، ولكنه لم يطلق صرخته وإن ارتدى بردة من نسيج “جزيرة آبا” حيث انطلقت حركة جده الإمام أحمد محمد بن عبدالله المهدي المولود في “لبب دنقلا” والتي تحرك منها جنوبا نحو “جزيرة أبا” لتتقوَّى شوكته فيزحف إلى أم درمان أو البقعة كما يسميها المهديون فيتخذها عاصمة انطلاق إلى الخرطوم للإجهاز على الإدارة الأجنبية للسوادان ويقتل “الحكمدار غوردون” ليقيم دولة العدل.
ولعل تلكؤ الصادق المهدي في الصرخة وتريثه في أخذ بيعة الأنصار كونه ابن عصره الذي يقرأ السافانا الأفريقية فيدرك كم تشبعتْ بمشاهد الاقتتال والدماء والصياح ، وأن عشباتها لم تعد ترتعش لمواجع التاريخ ولا تنكأ جراحاتها البطولات حتى وإن كانت بوزن دم الحنرال غوردون الذي أريق بسيف جد الصادق المهدي.
ولا عادتْ السافانا الخضراء تكترث بالرايات المهدية السوداء بعد أن اختلطت عليها الألوان وتزاحمت في عينيها الرايات وأقمشة فزاعات الحقول.
ويعرف الصادق المهدي أن أرض النيلين ستنتظر صاحب السيف الذي لا يغمد لتسميه بالمهدي السوداني المنتظر ، وستترقب الراية التي لا تنكسر فتلك هي راية المهدي.
ومنذ أن انعجن الصادق المهدي بإرث آبائه وهو يستقلّ طرازين من السيارات ، أحدهما يسرع به من أم درمان إلى مكتبه في رئاسة الوزراء ، ويهرول به الطراز الثاني في الدروب التي تنتهي بالسجن والمعتقل وبوابات الخروج في المطارات والموانئ لبدء سنوات المنفى.
وفي السادس والعشرين من نوفمبر ٢٠٢٠ دخل طراز ثالث من السيارات في تاريخ الصادق المهدي لينقله هذه المرة من سرير الألم البدني والألم السياسي إلى مقبرة الخالدين.
ولعل مسكِّنات المستشفى نجحت إلى حين من أن تنسيه أوجاعه ، إلا أوجاع السودان التي استعصتْ على كل لقاحات الساسة وأمصال السياسة رغم مساحة التفاؤل التي اتسعتْ بالإطاحة بالبشير ، وانتعاش آمال الصادق المهدي في العودة إلى السودان والعودة بالسودان إلى الوجهة المهدية والحلول المهدية.
إلا أن الصادق المهدي وهو على سرير المستشفى يكتشف متأخرا العمر المودع الذي يستحيل معه تكرار واقعة جده مع الحكمدار في “جزيرة أبا” والتي تزامنت مع غزوة بدر في السابع عشر من رمضان.
وأصاخ الصادق متأخراً لأنين الأضلاع وقرع أجراس النهايات لتتصاءل كافة فرصه في السودان الجديد.
وأدرك الصادق متأخرا أن الهدير المتسلل عبر نافذة جناحه بالمستشفى هو لمحرك الطراز الثالث والأخير من السيارات الذي ينتظره عند بوابة المستشفى.
وكانت آخر توسلات عينيه من خلف سديم أجهزة التنفس أن ينعم في أم درمان بآخر شهيق وزفير.
ومع ذلك يتسلط سيف كورونا ليقارعه حتى في الأمنية الأخيرة بتنفس هواء السودان.
وبرحيل الصادق المهدي تنطوي آخر الصفحات الزاهية في خلوات الأجداد في جزيزة أبا.
وآخر المهديين في محاريب “أرض الدر” أم درمان.
وآخر الهامات السودانية السامقة في السياسة.
والصادق المهدي وإن تعمَّد مهديا بمياه “لبب دنقلا”.
وإن تكرَّس صوفيَّاً بالطريقة “السمانية”.
وإن لم تفارقه العمامة البيضاء.
وإن تسمَّى بالإمام المهدي في الألفية السودانية الثالثة.
وإن سار إلى تجمعات أنصاره على صهوات الخيول المطهمة.
وإن استقبلته الرايات السوداء. يبقى ذلك الرجل العصري الذي يهوى البولو وكرة القدم ويلعب التنس الأرضي ويحاضر في جامعات الغرب ويعشق روايات الأدب العالمي.
وبرحيله يخسر السودان رافعة تاريخية يحتاجها في حربه الأمراض السياسية العربية وسد النهضة وتوحش كورونا.
ولكنه السودان المختلف حتى في مهدويته التي لا تستلّ السيوف لترفع الظلم ، بل لتكسر السيوف.
—————————
مسقط في ٢٧ نوفمبر ٢٠٢٠م.