مقالات
2020: العام البعيد
ارتدادا إلى أول تخوم الذاكرة، كم تبدو أرقام السنوات بعيدة حيث الوصول إلى أطرافها بعيد المنال من عمر نخشى عليه من السقوط، وكم نبدو صغارا أمام حركة الزمن، يتمدّد فوق معاصمنا، فنقول إن الساعات أصبحت دقائق، وأن الأيام تعبرنا سريعا، الجسر فوق مياه هادرة، تعبر من أسفله ولا يكترث إلا بالضفتين، ميلاد وموت.. كأنما الجسر لم يعد بتماسكه الأول، وأن ما يمرّ فوقه أو أسفله يوهنه، فيكاد يتساقط.
قبل حين من العمر، من الدهر، من الأيام..
كنّا صغارا، كعادة البشر الذين يشعرون بأنهم كانوا جميعا صغارا، وأنهم كبروا أكثر ممّا ينبغي، وأنهم ماضون إلى حيث لا يريدون، وأن فواصل لا تحصى تتعب مفاصلهم، وأنّ تفاصيل غير لازمة ترهق هوامش حياتهم، فكيف بمتنها الذي يرهقه التكرار، ويزهق روحه الملل.
كنا نلتحف بالسنين، نتدثر بها، ونقول إن ذلك بعيد، إن الألفية ليست زاحفة كما يروّج لها فتبدو الأصفار رعبا، وأن عام 2000 يحتاج إلى زمن إضافي لنلحق بركبه، حتى إذا حانت ساعة 1999 بتسعاتها الثلاث خشينا أن يكون نهاية العالم، فالأصفار المتشابكة والقادمة ستربك حتى المفاعلات النووية، وأن حواسيب الدنيا ستغلق حساباتها..
كنا، نعم كنا، و «ليت أنّا لم نكن» فإذا بالأرقام تتكاثر فوق قدرتنا على احتمال الزحام، وقد دخلنا حسابات رؤية «2020» ثم أخرجونا منها قبل أن يحين أوان الرقم الجميل إلى رقم تال، نراه بعيدا، ويرونه قريبا، هناك رؤية 2040 من يعيش؟
وهذا 2020 يختال بيننا بتناسقه وأناقته، فقد أسعفنا العمر قليلا لنصل إلى هذا الرقم وقد كان «بعيدا» فأضحى قريبا، أو بالأحرى سكن بيننا، وعلينا اعتياد كتابة أرقامه كاملة، لا يكفي أن نكتب «20» كما اعتدنا قبل الألفية أن نكتفي بآخر رقمين على اليمين..
وربما سيسعفنا العمر، نحن القادمون من القرن الماضي، لنرى الرؤية الأربعينية، وحينها سننظر في خرائطنا السبعينية لنبحث في العمر عن عمر، وفي الزمن عن زمن، ونفتش في ساعة الوقت عن وقتنا الذي عبر جلّه، ولم يبق إلا فتاته الأخير، إن بقي من رغيفنا شيء لنتأمل ذلك الفتات.
تكتبنا الحياة، ونكتبها..
ونصرّ على أن نصرنا قادم لا محالة، مع أن هزائم الحياة تبقى خربشاتها على حائط الروح، حيث إن الزمن المنسرب من الأجساد يتعب أرواحنا، ويلقيها في غياهب التأمل العميق، لما مضى، من «الأكثر» ولما تبقّى من «الأقل»، وما هجع على ذواتنا من تعب، تنوء به الروح قبل الجسد، ونستعيد، بمتعة، أغانينا التي كانت، طفولتنا التي تباعدت، أحلامنا، ما تحقق منها وما تبخّر، ما مكث من نافع، وما مضى من زبد، نسائل الموجة عن آخر مدى تصله على الساحل، ونسائل البحر كم بقي من الموج يدفعه إلى سواحلنا.. باندفاعات تسوقها الريح غضبا أو بنسمات تلقيها برداً وسلاما، فيصلي الرمل حتى تتساقط الذرات من جبهته نجوما!.
………………
وأيقنت، أنك الساحل
يمتد،
من أقصى الوردة،
إلى أدنى الروح
وانسحبت.. كيابسة
فبانت سوءة الموج
بين أصابعنا، متباعدة، تودع.