العام

شروق جمعية الصحفيين في عصر غروب شموس الصحف الورقية

مقاربة يكتبها:حمود بن سالم السيابي

كلّما صادفت رجلا يتأبّط صحيفة أحنيتُ الرأس لسنوات عمري بجريدة عمان فما يزال بعالمنا من يعشق حبر الطباعة ورائحة الورق. 

وإذا هرب الضجرون من تأخّر مواعيد الرحلات في المطارات بالسمو في أفق العناوين الصحفية انتابني الشعور بالفرح فهناك من يثمن سهرنا الطويل بين صخب «الهايدلبرج» و «الكرومومان» وأكواب القهوة والشاي التي تستنزف الأعمار. 

وحين نستعيد براءة أيامنا وعفوية ممارستنا للمهنة نشفق لحالنا ولحال المهنة إذ لم تكن لدينا نقابة توجهنا لنتحسس نبض الشارع وآلام الناس، أو تتولى تربيتنا سياسيا ونقابيا، أو تهتم بتعبئة أقلامنا بالحبر لنسكبه كحلا في عيني الوطن. 

وكنا نحارب بلا أسلحة وحين تهب عاصفة غاضبة لا نجد خنادق نأوي إليها ولا متاريس تقينا زخات السهام والنبال. 

وحين زرت القاهرة ودخلت نقابة الصحفيين مطلع ثمانينيات القرن الماضي تملكني الحسد تجاه زملاء المهنة الذين يمتشقون يراعًا لا نملك «ماركته»، ويملؤونه مدادٌا لا نملك نوعيته، ويسرجون حلمًا  لا  يراودنا لنسهر على تحقيقه. 

وقد عشت زملاء المهنة عن كثب في قلاع الأهرام والأخبار والجمهورية ورأيت أن أسنان أقلامهم كلما غاصت في قضية انتزعوها دون جروح. 

وإذا انفعل المزاج السياسي كانت النقابة الحصن والحضن والدرع والخندق. 

وقبل أن أكرر صيحة المهاجر العربي الذي وقف أمام تمثال الحرية فتساءل «متى تولي وجهك صوب الشرق»؟، فأصرخ متسائلا متى نرى مثل هذا الحضن الذي يحيط برعايته صحفيي عمان والوطن والشبيبة قبل أن تولد جريدة الرؤية. 

ودخلت النقابة المصرية وتحسّست جدرانها فتلألأت بمحمود أبوالفتوح وفكري أباظة  وأحمد قاسم جودة  وأحمد بهاء الدين  وعلي حمدي الجمال وعبد المنعم الصاوي  ويوسف السباعي وصلاح جلال  وإبراهيم نافع فعرفت سذاجة الصرخة لو صرخت «متى تولي وجهك صوب الشرق»؟. 

ومع ورود الأخبار المؤسفة عن إغلاق المزيد من الجرائد وتوقّفها عن النشر ورقيًا أشعر أن بموت الجريدة تموت في أجسادنا ملايين الخلايا، وتتناقص نسب الأوكسجين في الهواء ويصبح وجود النقابة أو الجمعية أو الهيئة في عصر الصحافة الورقية كوجود الجيوش التي تتقاتل في ألعاب «البليستيشن» أو الفرق الكروية التي تتبارى عبر النسخ المحدَّثة للألعاب. 

ولهذا لا أستغرب عدم حفظنا لأسماء رؤساء التحرير الذين طووا جرائدهم وحوّلوها إلى مواقع إلكترونية ملونة فقد اختاروا تسليم العروش والاكتفاء بالمواقع الافتراضية. 

وأصبح من الطبيعي أن يتراجع دور النقابة والنقباء في زمن تغرب فيه شمس الصحافة وتشرق شموس الهواتف والحواسيب اللوحية. 

ولقد جاهد رجال أمثال الأساتذة علي بن خلفان الجابري وعوض بن سعيد باقوير وسالم بن حمد الجهوري وعلي بن راشد المطاعني والدكتور محمد بن مبارك العريمي وطالب بن سيف الضباري وحيدر بن عبدالرضا داوود وغيرهم في ولادة أول جمعية للصحفيين العمانيين وحصلوا على ترخيص بإشهارها وفق الأنظمة ذات الصلة بقانون إنشاء الجمعيات. 

كما استصدروا قرارات المصادقة عليها إقليميا وعربيا ودوليا ووقعوا العديد من الاتفاقيات الدولية مع النقابات والجمعيات والهيئات المماثلة لإرساء دعائم التعاون الثنائي. 

وكانت تطلعاتهم أن تؤدي الجمعية دورا نقابيا أسوة بالنقابات المماثلة، إلا أن القانون لم يمنحها سلطة إصدار التصريح بمزاولة المهنة للصحفي أو حرمانه لدى إخلاله باللوائح التي تحكم قيم المهنة فاقتصر دورها على رفع كفاءة الأداء عبر برامج التأهيل والتدريب التي تنظمها لجنة التدريب بالجمعية إلى جانب أداء دور محدود  لدى الجهات الحكومية والخاصة التي تعيق الصحف عن أداء مهامها أو تمارس التضييق على الصحفي.

 

كما تحركت الجمعية على خط التنازع القانوني  بين الأجهزة والصحفيين في مسعى لتخفيف التصعيد وحملها على سحب قضاياها من المحاكم والتصالح بقدر الإمكان مع الصحف والصحفيين. 

ولعل ما ضاعف أعباء جمعية الصحفيين العمانيين ولادتها المتزامنة مع بداية عصر أفول النشر الورقي للصحف إقليميا وعربيا ودوليا وتمدد شبح الأفول ليهدد صحف البلاد بالتوقف. 

وإذا حصل وترجل أحد ملاك الصحف عن صهوة الجواد فإن جمعية الصحفيين التي ولدت متأخرة زمنيا وناقصة الصلاحيات تنظيميا أن تنفض بسرعة جيوب الأدراج وتلملم بعثرة الأوراق وتسلم وزارة التنمية الاجتماعية المفتاح، فلمجرد توقف جريدة عمانية واحدة عن النشر الورقي ستلحقها الأخرى تباعًا ليبدأ عصر النشر الإلكتروني والكاتب الإلكتروني والقارئ الإلكتروني والنقيب الإلكتروني. 

وإذا كان دور النقابات  قد تعاظم لوجود قامات كبيرة حملت الرسالة وآمنت بالعمل النقابي كفعل سياسي يجعل من النقابة شريكة في صياغة الحاضر والمستقبل  ولديها الجرأة لأن تحارب الكون في سبيل الإبقاء على قلم لا ينكسر ومداد يشتعل  من أجل الحق، فإن وجود جمعيات محدودة الدور والمسؤوليات تصبح مجرد واجهة تستكمل بها الدول مؤسسات المجتمع المدني دون أن تتاح لها ممارسة حقها الطبيعي في منح الصحفي حق مزاولة المهنة أو حرمانه لإخلاله باللوائح أو لعدم توفر المعايير الدولية.

ولأن الآباء المؤسسين لأول جمعية عمانية للصحفيين قد مشوا الخطوة الأولى فعسى أن تتبعها خطوات تليق بريادية البداية مع استمرار صمود الصحف العمانية اليومية الست وعدم ركب موجة النشر الإلكتروني ما يجعل الرهان على وجود جمعية فاعلة للصحفيين مسألة مهمة.

وأعود كما بدأت فرؤية الماشين في عواصم الدنيا يتأبّطون صحفا أو يكسرون ضجر انتظار المواعيد بقراءة الصحف هو آخر الرصاصات في معركة البقاء.

وإذا كنتُ أبكي عمرًا سفحته بلا معنى فإن وجود القارئ الورقي هو أجمل ثأر في وجه الذين يودعون المطابع والأحبار والورق ويلجؤون إلى أزرار «الكي بورد» في الهواتف الذكية والحواسيب اللوحية. 

هامبورج في العشرين من يوليو ٢٠١٨م.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق