الثقافي
نصف
عهود الزيدي
بعدما وزعت أوراق إختبار مادة العلوم، لنعرف النتيجة أردفت الأستاذة قائلة:” الحاصلة على العلامة كاملة ستذهب إلى رحلة، رحلة إلى منجم الذهب”.
أتأمل ورقتي، تسعة ونصف من عشرة، لم تكن لنصف درجة أن تذبل جذوة شوقي للرحلة المزعومة، والتي تأججت بصدري لحظتها، وأنا أتخيّل منجم الذهب كتلك المناجم التي شاهدتها بضع مرات في الأفلام الإنجليزية .
##
الغد الباكر قبيل فترة طابور الصباح المدرسي المعتاد، تتأهب المجموعة وتستعد، وأنا ألْحَظ رتابة الاستعداد والابتسام، ساقتني قدماي بشوقٍ، متخفية بين هذه وتلك، داعية ألا تراني أستاذتي وفاء عبدالعزيز، وتطلب مني البقاء، وحال البعض يردد “عهود وين جايه!؟ إرجعي الصف قبل لا تشوفك “أبلا” وفاء.
آثرت الصمت على الإجابة، كل ما بعقلي الآن، إنها نصف درجة ليس إلا، يحق لي الذهاب.
أسابق الخطى لأكون أول الراكبين في الحافلة، ويصعد من بعدي في اتساق تام، ثم مشرفات الرحلة، معلمة المادة وأخرى تدعى الاستاذة مهرة، في الحقيقة إختياري لآخر مقعد من الحافلة لم يكن محظ صدفة، وإنما إذا ما تنبهت لي الأستاذة لاحقا، تستصعب إنزالي، في حافلة تتسع خمسة عشر راكب، وقد نكون أكثر، هذا ما حدث بالفعل وهي تحصي عدد المجموعة، “عهوووود انتِ معنا!”، أجبت والخوف تجلّى في نبرة صوتي “معكم، نص ما تفرق”.
##
إلى منجم الذهب، منجم الراكي، لوقوعه في وادٍ اسمه الراكي، متى سنصل؟.. قريبا، لم يتبق إلا القليل، مرّ ما يقارب نصف ساعة على استفسارنا، وإذ بنا على مدخل الوادي، تستقبلنا لوحة إرشادية على مفترق الطريق كتب عليها “منجم الراكي”، إطارات الحافلة تطوي ما تبقّى من الشارع المعبد، وبحذر تشق الكيلومترات الوعرة، تبدو وكأنها تغوص في بطن الوادي والأتربة تتصاعد غبارا، لاح في الأفق بوادر الوصول، يتسلل الفرح بخجل إلى عمقي، وتروي البسمة وجهي، ترجّلنا بعد وقوف الحافلة تحت شجرة أكاسيا خضبة الظل .
شخص ما مسؤول عن جولتنا المنجمية، مرشد سياحي رحّب بالمجموعة وحيّاها، خطوة خطوة تباعا يشرح مراحل الحصول على الذهب الخام، نصعد سلم حديدي ضيّق بحذر، يوصلنا إلى خزانات ماء كبيرة جدا، ذات عنق مفتوح، بمساحات واسعة تشكلت على صفحة الماء خلاصة مذهبة، تشع بريقا، من قوته تغمض عينيك والبريق باقٍ، كبياض وسط العتمة المحمّرة.
##
نزلنا من المكان المرتفع والذي يعد المعمل الرئيسي في الاستخلاص، إلى الوادي الذي يجمع منه الصخور التي تحتوي على نسبة عالية من الذهب، “من هنا نختار الصخور الأفضل” قال مرشدنا، المكان يكتسي جلالا وجمالا، تتنفس العَظمة بخلق الواحِد. حملنا بعض الصخور رائعة الشكل والملمس، بعد الاستئذان، لمختبر المدرسة، محطة أخيرة، غرفة عينات الذهب، أنابيب طولية الشكل تحتوي على خلاصة العينات، بعضها اصفر وبعضها أحمر، وهلمّ …،
##
نهاية المطاف، صورة تذكارية، مشرفات الرحلة بمنتصف الخط المتوازي، بمعية المرشد الذي يعمل في المنجم وتكفل بالشرح، بعض الطالبات وقفن بنفس الخط، وبعضهن في الأمام، بشكل يتسع لظهور الجميع في مربع كاميرا التصوير الصغير.
في طريق العودة والحافلة تشق طريقها نحو وادي فدا، الشمس تبدو عمودية في ظهيرة حارة جدا، تغوص بين معالم الوادي وكأنها لقمة سائغة لاقت مكانها الصحيح.
وحين غادرت الحافلة هبط خلفي سؤال راوغته كثيرا، ماذا لو تعثّرث بالنصف مرة أخرى؟!