الفني
عن الدراما العربية ودورها الإنساني التنويري
أنور محمد
كَيْفَ تُوزِّعُ وقتكَ لتُشاهدَ ما يُقارب مئةَ مُسلسلٍ تلفزيوني من إنتاجٍ مصري وسوري وخليجي وجزائري وعراقي ولبناني ومغربي وتونسي دفعةً واحدةً خاصة في شهر رمضان ثمَّ يُعاد بَثُّها حتى رمضان التالي؟. وأنَّ الدراما صارت صناعةً ومهنة تُستثمر فيها الأموال كما تُستثمر في الصناعات الخفيفة والثقيلة. وهذا ماصرفها عن ممارسة مهمتها ودورها الإنساني التنويري، فنراها قد أخذت اتجاهاً تدجينياً صار سائداً ومهيمناً يفرضه علينا (مُنتجوها) وصار يتوطَّد ويتجذَّر. وبذا صارت تعمل على ظهور تباعدات وانحرافات في الحياة الاجتماعية. فكثير من المُسلسلات صارت تغذِّي الانشقاقَ والتخلُّفَ والجهلَ والشعوذةَ والخرافة، لأنَّها لا تُبنى على أُسُس عقلانية وبراهين مادية، ممَّا يعيق النمو الحضاري، على أنَّها صارت منبراً للديمقراطية!! وصار الطلب والاستهلاك الجماهيري لها يزيد. في حين أنَّها تُسطِّح وعينا، وتزيد من عزلتنا وقلقنا وضياعنا. من هذه المسلسلات نذكر: باب الحارة بأجزائه العشرة، ومسلسل الهيبة بأجزائه الثلاثة على سبيل المثال. التي تغرقُ في تمجيد العنف المادي والروحي، وتذهب نحو الانحطاط والحطِّ ب (العقل). فنتحوَّل إلى وحوش ضارية ولكن بشكلٍ آدمي، حيث تربو «الغرائز» بأصنافها، وهي في حالة جوعٍ لا تشبعُ من الجهلِ والتخلف، ولا من اغتصاب ما بقي من إنسانيتنا.
ما هذا الانحطاط، ما هذه الشخصيات المبثوثة في معظم المسلسلات العربية، شخصيات حتى في الأعمال الكوميدية تراها قاسية مسكونة بالعنف الذي لا يدافع عن حق أو عدالة أو قانون مدني. ما يتركنا في عزلة خارج وسطنا الإنساني، وكأنَّها دراما تُدمِّر إمكانية أن تكون دراما الحياة الأسرية أو التقاليد الاجتماعية أو الصراعات العقائدية والسياسية. دراما شخصياتها من دُمى تتحرَّك وفق أسلاك يشدُّها ويرخيها المُنتجُ والمُخرجُ هدفها حجبُ صورة الإنسان الذي وظيفته في الدراما هي وظيفة سياسية. الدراما هي كونٌ من الجدل الحر المُتجدِّد ليتحقَّقَ إنْ على الخشبة أو في الصورة السينافيزيونية، لأنَّ الإنسان الدرامي هو حامل المستقبل؛ وليس ذلك المُدجَّنُ الذي يقرعُ البابَ قبل الدخول، الخاضعُ والمُنفذُ للقواعد المجرَّدة والأوامر القاسرة.
دراما/ صورة/ مسلسلات تريدنا أن نموتَ بدلاً (عنهم) فترى في أغلبها تكريساً للأفعال السادية من خلال تجسيدها لغرائز مكبوتة لم تنفجر- بقيت تحت مخدَّة العنف تُكَورِثُنا، وهي تشحننا بالعنف العدواني، الذي يحرِّضُ على الكراهية والشراسة والقسوة والانفلات!! وكأنَّنا محكومون بالموت لا ب (الأمل).
الدراما عموماً؛ شخصياتها من دمٍ ولحم؛ من أحاسيس وليس من ورق، وهي شخصيات تشتغل تاريخها بكامل نشاطها العقلي. فهي عقل الجماعة؛ عقل الأمَّة، ويحرِّكها في مساحات الصورة الجدلُ التاريخي مهما كانت الفروق والفوارق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بينها متفاوتة. فمن هذه الفروق تنشأ الصراعات، ولا ننكر أننا شفنا عروضاً بسوية فنية وفكرية حاولت مسَّ وجداننا بصدق، وبمَشَاهِدَ مؤثِّرة شعورياً؛ فيها أفعال وردود أفعال، وجهد ومقاومة وأوساط جغرافية وتاريخية وتركيبات واتصالات، وكيفيات وقوى ذات جوهر تعبيري. مَشَاهِد جارحة قاطعة؛ وإن كان حيِّزها الفني والفكري مُغلقاً وضئيلاً وعارضاً رغم جدِّية وربَّما صدق الحماس عند صانعيها، ذلك لأنَّها لم تستفد من علوم الصورة، بقيت مع وجه قريب ووجهٍ بعيد، وإذا كان الوجه انعكاسياً بقي كذلك، دون أن يتحوَّل إلى وجه تكثيفي. بقينا مع صورة؛ مشهد نمطي مُكرَّر، وغير مُعبِّر- تعبيري, هذا عدا حركة باقي أطراف وأجزاء جسد الممثلين التي تتناسب طرداً أو عكساً مع الفعل/الصراع، فإنَّ توزيع الضوء مثل الأبيض؛ النهار؛ الشمس.. لم يذهب نحو النور أو النار، والكامد كما الأسود لم يذهبا فيقتحما لججَ الظلام/العتمة، ويستفيدا من تأثيراتها، فنرى وجوهاً وأجساماً، جماداً، نباتاً، مياهاً في نهرٍ أو بحرٍ تشعُّ أو تتلألأ، فتمنحنا إحساساً بالجمال والأمن أو بالفزع. بقينا في صورةٍ رغم وضوحها بقيت ضبابية، ذلك لنمطيتها وتقليديتها. الإخراج علم، ومشروع شخصي للمُخرج يُمرِّر فيه رسالةً يُدافعُ فيها عن مظلومٍ أو مقهورٍ أو جائعٍ أو أسير، أو طائرٍ في قفص.
الصورة في الدراما وإن سُلِّعَت وشُحِنَتْ بالعُنف والجريمة، وغاصت في أعماق الحُلم والشبق، وروَّجَت للسلع الاستهلاكية التي تأتي كفاصلٍ بين مَشاهِدِ الحلقة، فإنَّها لايمكنُ أن تُنسينا، كما نسيت هذه الدراما أن تولي قضايا مثل قضية فلسطين اهتماماتها. قضايا ما تزال تجلدنا وتثير انفعالاتنا، لأنَّها تختزنُ كثيراً من التراجيديا/ المآسي، كون الدراما تعمل على الوصول إلى الحريَّة التي تُشكِّلُ جوهرَ الحياة، فنحيا.