مقالات
الوظائف: بين “المتقاعدين” و”الباحثين عن عمل”
محمد بن سيف الرحبي
يسود الانطباع أن موجة التقاعد التي كانت سمة الربع الثاني من عام 2020 جاءت مفاجئة وصادمة لعدد كبير من الموظفين الذين كانوا على حسابات ما تبقّى من سنوات المكوث على رأس الوظيفة، علما بأن شريحة واسعة من بين المحالين للتقاعد وفق نظام إكمال الـ 30 عاما يكملون بقية العام الحالي في إجازات تراكمت، وبينهم من يكاد يقترب من الستين أو ما دونها بقليل، ومنهم من لم تكن لديه مسؤوليات وظيفية حيث يشعر بأنه أعطى ما لديه، ولا طاقة له بالمشقة.
وبلا جدال فإن هناك أصحاب خبرات وذوي كفاءات غادروا القطاع الحكومي بما يعدّ خسارة حقيقية لجهاز مكّنهم وفتح أمامهم الفرص للتعليم والتدرّب كما أثبتوا حضورهم بعطاء، فيصعب تعويض خروجهم بسهولة، لكن مثل هذه الكفاءات لن يكون مصيرها المكوث في البيت، بل البحث عن رحلة أخرى من العطاء، سواء عن طريق العمل الحر، أو الالتحاق بشركات القطاع الخاص.
وهنا بيت القصيد كما يقال: هل ستنافس هذه الخبرات وبقوة، الباحثين عن عمل الذين يزدادون بعشرات الآلاف كل عام؟ ومشكلة إيجاد وظائف لهم هي التحدّي الوطني الأكبر؟!
هناك عدة نقاط يمكن وضعها على بساط البحث:
أولا: هذه الكفاءات يمكنها أن تحل مكان القوى العاملة الوافدة، كونها تجد أن خيار التوظيف دون راتب عال مريح بعض الشيء، فهناك راتب تقاعدي يردم المسافة في حسابات الموظف بين الراتب (المتوقع) الذي يأمله من وظيفته.. ومعطيات (الواقع) في أغلب الشركات وبينها ما يواجه أزمات مالية وحالات كساد متعاقبة.
ثانيا: هذه الفئة من الكفاءات ستحصل على فرصتها في الوظائف الإدارية المتوسطة والكبرى، حيث لا يمكن للموظفين من جيل الشباب الحصول على مسمى مدير أو رئيس قسم منذ أول سنوات خدمته، لكنه في المقابل يجد جيلا من أبناء وطنه يفتح له الطريق للتعلم، عكس ما نسمع به عن (اللوبيات) التي تحرمهم من هذه الفرص.
ثالثا: استفادة الاقتصاد المحلي من هذه الفرضيات، حيث إن الكفاءات الإدارية متوفرة أمام الشركات، وهي ستعطيها ميزات أخرى: لا تحتاج إلى ترتيبات إقامة وتجديد بطاقة وتذاكر سفر، عدا المسؤولية الوطنية التي تضطلع بها ليكون تدوير العائدات داخل البلاد، وليس عبر تحويلها إلى الخارج.
هناك آلاف الفرص المفتوحة في القطاع العام بعد موجة التقاعد، لكن المؤكد أنها أقل بكثير من عدد المتقاعدين، فالهدف هو التقليل مما يسمى “بالبطالة المقنعة” ومستويات “الترهل” في القطاعات الإدارية داخل المؤسسات الحكومية..
ويمكن تقنين ذلك، وحتى لا تبدو المنافسة محسومة لصالح ذوي الخبرة، ولا أحسب هذا بغائب عن رؤية صنّاع القرار، بمنع المتقاعدين من التقدم للوظائف التي يمكن شغلها من الشباب الجدد، علما بأن أغلب المحالين للتقاعد لا يبعدون عن سن التقاعد الرسمي (60 عاما) إلا بضع سنوات، تتراوح بين الخمس إلى سبع في المجمل، وهذه استنتاجاتي وليست أرقاما مؤكدة.
ما يمكن التأكيد عليه أكثر هو منع الجمع بين متقاعد من جهة حكومية والتوظيف في شركات حكومية، ولو عبر العقود، حيث يمكن للتحايل في المسميات أن يكون مسلكا ملتويا يلجأ إليه البعض، وما أكثرهم!
ويبدو أن سمة 2020 هي التعايش، ليس مع انتشار “كوفيد 19” فقط، بل عبر تحديات جمّة، واجبنا قراءة مستحقاتها جيدا، فالحياة لم تعد كالسابق.