الثقافي
مقطع من رواية / أتوضأ نصري وأنهزم
محمد الحميدي
عند الزاوية الأخرى، خصمه ينتظر جولة جديدة، يُنهك فيها قوته ويكسر عناده، يدركُ: الانتصار على صاحب الجسم الضخم يحتاج أكثر من الشجاعة، يحتاج لتهور، (لنفسه): سأكون متهورا جدا، وأصطدم به بقوة، لأرميه خارج الكرة الأرضية؛ خارج عالمي الجميل، ها هو يهبط من الأعلى، يمد مخالبه المدببة؛ إذا سقط عليّ سأتحول إلى شريحة لحم، ينزاح ناحية اليمين، هرب بالكاد.
يسقطُ، يلتفتُ إليه، ينظران في عيني بعضهما البعض، إنها المرحلة الحاسمة، الأسنانُ الحادة تنغرس عميقا داخل اللحم النيء، تتدفق الدماء إلى الأعلى، وتلوث الأرضية حال نزولها، يشاهدان ما حصل، لا يتوقفان، مجنونانِ في ساحة معركة، إما الانتصار، أو الانتصار، لا يقبلان بالهزيمة، مهما كانت!!
جولة ثالثة من الصراع، كل منهما يُمنّي النفس بالفوز، يركضان في شكل دائرة، يستعدان، ثم يقفزان في الهواء، يلتقيان ومخالبهما البارزة تنغرس من جديد، تصدر أنّةٌ خافتة، يجب أن يحافظا على هدوئهما ما أمكن، الجميلة القابعة إلى جوارهما تراقب المعركة بنشوة، ستكون من نصيب الفائز.
لم يعد بوسعهما مواصلة القتال كما في الجولات الأولى، الجراح تؤلم، لا بد من المواصلة إذا أرادا الهرب من عالمهما القاسي، يُصدران هديرا مخيفا، يبتعدان عن بعضهما، ثم يقتربان بسرعة، ويتوقفان قبل الالتحام، يدركان صعوبة الفوز، ولا يرغبان بالهزيمة، “الهزائم مكلفة، أثمانها باهظة؟!”
يتوالد المشاهدون، ثمة حاجز زجاجي يفصل بين المتصارعين والجمهور، الصرخات تأتي من الأعلى، تحثهما لمواصلة القتال، وعدم التراجع، اقتربت اللحظة الحاسمة، العيون تراقبُ، دماؤهما لا تعني شيئا لكل هؤلاء؛ يعيشون عالما مختلفا، عالما سعيدا، جولة جديدة ستبدأ، وعلى أحدنا أن يحرز النصر؛ فـ”النصر وحده يحقق الأمنيات؟؟!!”
ينطلقان بحركة سريعة، ويصطدمان ببعض، يتشوهان، فالمخالب المدببة عادت لتنغرس في الأجساد، أنين خافت صادر من صاحب الجسم الضخم، يُصاب بعدم الاتزان، يسقط أرضا ويدور خصمه دورة النصر، يتأكد من كونه غير قادر على إكمال القتال، تأتي الهتافات من الأعلى، تطالبه بالمزيد، تريد إخراج الوحش الكامن بداخله، يتردد قليلا، يستمع إلى الهتافات بلا مبالاة، “ليس المهم في المعركة القضاء على العدو، المهمُّ الحصول على الجائزة، أنا المنتصر الآن، وسوف أحصل على جائزتي!”
لا تزال الأصوات تتعالى، تتجه ناحية الملقى على الأرض، تحثه للقيام، كيف ينهزم أمام صاحب الجسد الضئيل؟! “في المعارك لا شأن للجسد بالانتصار أو الهزيمة، الشجاعة تحدد المنتصر منذ البداية، فالذين يخافون الألم، لا ينالون النصر؟!”
تتواصل الصرخات لعلها تنفع في إيقاظ القط المُلقى على الأرض، لا يتحرك، أقر بهزيمته، القط الأسود صغير الحجم انتصر في المعركة. لا حاجة بنا للبقاء، (هكذا خاطب رفيقه)، نعم، لا حاجة بنا للبقاء، لنذهب من هنا، بدأت أختنق من الزحام.
بجوار السوبرماركت، وقفا أمام طابور يمتد عدة أمتار، لشراء علبتي كولا، فالصراخ استهلكهما.
المشروبات والمأكولات ممنوع جلبها من الخارج بأمر صاحب الحلبة.
ألم تقرأ الورقة المعلقة عند البوابة! “القوانين تفرضها الدولة”.
الدولة تفرض القوانين!! تتبعها ابتسامة واسعة، سرعان ما تتحول إلى قهقهة عالية، قبل أن يخفض صوته، و”متى كانت قوانين الدولة ملزمة؟!”
يبتسم ويرد عليه: “الدولة هي الدولة يا صديقي، سواء احترمنا قوانينها أم لا!”
يعود لقهقهته قائلا بذات الصوت الخفيض: الدولة هي الدولة، وقوانينها ينبغي الالتزام بها، ثم يواصل ضحكته دون توقف، كأنه مصاب بالجنون، ما جعل الواقفين في الطابور يلتفتون إليهما، نزلت دمعة صغيرة من عينيه بسبب الضحك العالي، وتحاشياً للإحراج، رفع صوته قليلا مخاطبا صديقه: “استمتعت اليوم؟” “ما رأيك في القط الأسود؟” “بطل، صح”.
قابله بهز رأسه، معركة مثيرة لولا أنها استنزفت الكثير من الدماء .. والأموال، ثم أتبعها بابتسامة ذات مغزى، فهم الإشارة وأكمل يخاطبه: الدماء لا بد منها في كل معركة .. وكذلك الأموال، “السعداء من ينتصرون في النهاية!” يا تُرى من السعداء اليوم؟!