مقالات

الهندسة القانونية للمشاريع التجارية (1 ـ 2)

 

د. خليفة بن محمد بن عبدالله الحضرمي

  نائب رئيس المحكمة العليا

تطرأ المخاطر بين الفينة والأخرى في حياة أغلب الأنشطة الاقتصادية عموماً وهي جزء من آثار التنافس بين الناس في مختلف مناحي الحياة لذا فالتعامل مع هذه المخاطر يجب أن يتم وفق معايير فعالة وذات أبعاد تتعدى الدور المسكن أو بالأحرى المؤقت أي يجب أن تكون هذه المعايير وفق وسائل يستطاع من خلالها السيطرة على عقبات ديمومة سير هذه المشاريع التجارية نحو الأمام ومن هذه المعايير الإدارة القانونية لمثل هذه المخاطر.

فالبيئة القانونية تلعب دوراً كبيراً في نجاح المشروع التجاري والهدف الوصول بالمشروعات الاقتصادية إلى وضع تنافسي فعّال خالٍ من المشاكل المستعصية.

 فمعرفة المشاكل القانونية أو بالأحرى أيضاً توقعها يمكن لهذه المشاريع التجارية  الحد من تلك المخاطر أو المشاكل عن طريق رفع مستوى الوعي القانوني لدى الإدارة(1) العليا وتجاوز غلبة فكرة الأمية القانونية لهذه الأخيرة.

إن قواعد بازل لعبت دوراً كبيراً في إقرار ما يعرف بإدارة المخاطر الائتمانية وفق ضوابط محددة بالنسبة للشركات البنكية ثم ظهرت قواعد حوكمة الشركات وهي سلطات الإدارة الرشيدة فيها باتباع المبادئ السليمة لتفادي الأزمات المالية في ظل النظام الرأسمالي الاقتصادي السائد حالياً وهو مما يمكن الاستفادة منه(2).

إن تطبيق مبادئ الحوكمة للمشاريع الاقتصادية تعنى إدارة المخاطر القانونية بنجاعة وذلك لتفادي المخاطر التي قد تهدد حياة تلك المشاريع الاقتصادية وإيجاد بدائل تقيها مصارع السوء وهي الخسائر أكانت خسائر مالية أو ضعف المنافسة داخل السوق أو غير ذلك من المشاكل الاقتصادية المرتبطة بسير المشاريع الاقتصادية، فما أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه القانون في حياة المشاريع الاقتصادية، سيما في ظل الأزمات الاقتصادية التي يتعرض لها العالم بين الفينة والأخرى؟

وكيف يمكن أن يكون للقانون هذا الدور كعامل مؤثر في الأخذ بالمشاريع التجارية نحو المنافسة والبقاء السليمين؟

للإجابة على ذلك سنتناول النقاط التالية :

أولاً : إدارة المخاطر القانونية: ماهيتها وأهميتها للمشروعات الاقتصادية

ثانياً : الدور غير التقليدي للقانون في حياة المشروعات التجارية( (The proactive law 

أولاً : إدارة المخاطر القانونية 

أ – ماهية إدارة المخاطر القانونية

تعني المخاطر حدوث أمر غير متوقع يوصل إلى نتيجة غالباً ما تكون سلبية وقد يقال(3) بأن المخاطر فرع من الظروف الخارجية تعرض الشخص لوضع معاكس يجعله إما أن يحقق مكاسب أقل من المتوقع أو يعاب بخسارة.

وتأتي الإدارة لاختيار نمط معين أو طريقة معينة للتقليل من خطر معين على النشاط الاقتصادي أو بالأحرى القيام بإجراء من شأنه التقليل من إمكانية الوقوع في مشكلة ما عن طريق توقع المشكلة القانونية، وفي ظل تنامي وازدياد التنافس الشديد بين مختلف الأنشطة التجارية بالأوقات الراهنة تعد هذه الظروف مجالاً خصباً للتعرض للمخاطر القانونية بدءاً من مرحلة الإنتاج أو التصنيع وحتى مرحلة التسويق.

المخاطر القانونية التي تكون الأنشطة الاقتصادية عرضة لها

 أما إذا جئنا إلى تبيان المخاطر القانونية التي قد يتعرض لها النشاط الاقتصادي فكثيرة أمثلتها:

  • الدخول في معاملات جديدة ليس لها تنظيم قانوني واضح أو سوء صياغة عقد معين.

  • عدم الوعي بالالتزامات التعاقدية مما يترتب عليه ضرراً على النشاط الاقتصادي.

  • المساس بالملكية الفكرية للآخرين.

  • عدم مجاراة أو توفيق الأوضاع القانونية للنشاط التجاري تبعاً للمستجدات القانونية كما هو الحال بقانون الشركات عندما أسندت شركة الشخص الواحد.

  • عدم إدراك القوانين ذات الصلة بالمنافسة المشروعة سيما وأن السلطنة دخلت في اتفاقيات دولية لدى منظمة التجارة العالمية على سبيل المثال مما يتوجب الالمام الكامل بذلك.

 نفهم من كل ذلك أن هناك تنوعاً للمخاطر القانونية التي تتعرض لها المشاريع الاقتصادية وهي مرتبطة بعمل النشاط الاقتصادي مما يقتضي إدارة فعّالة لها وهنا تبدو تلك الأهمية.

ب- أهمية إدارة المخاطر القانونية للمشاريع الاقتصادية

ليس الهدف من إدارة المخاطر تفادي السلبيات بل أيضاً التخطيط لإدارة ما يواجه النشاط الاقتصادي من مخاطر وإبعاده عنها من خلال: مثلاً الوصول إلى أسواق جديدة أو تطوير واقع النشاط الاقتصادي وتطوير ميزة التنافس عن طريق التحكم في التكاليف أو اصلاح المنتج المعيب وبصورة أخرى الزام الشركات بتطبيق مبادئ حوكمة الشركات(4) التي أوجدت نمطاً جديداً للتعامل مع للمخاطر التي تطرأ جراء المتغيرات الاقتصادية العالمية إذ تعمل هذه الحوكمة على موائمة للمراحل التنموية في الدولة(5) حيث يقاس إصلاح اقتصاد الدولة وشفافية وعدالة بيئتها الاقتصادية بمدى تطبيقها لهذه المبادئ (6)، وهذا يعني تحمل الإدارة العليا مسؤوليات جسام تجاه النشاط الاقتصادي عن طريق التحكم في المخاطر أولاً: بحسن تطبيق القوانين واللوائح والالتزام بها وإدارتها وثانياً: عن طريق التأمين ضد المسؤولية القانونية (7).

وهذه الأخيرة أي التأمين من الأهمية بمكان للنشاط الاقتصادي إذ يمنح الإدارة العليا قدرة التصرف دون خوف من المطالبات القانونية بسبب الأخطاء التي ترتكب نتيجة السهو والإهمال أو التطبيق الخاطئ للقانون الذي يحكم النشاط الاقتصادي فيسبب ضرراً لهذا الأخير أو ضرراً للغير(8) أو ضرراً للمساهمين فيه.

لذا نجد من يقول أن إدارة المخاطر القانونية في المشاريع الاقتصادية تتطلب بالوقت الراهن أكثر من أي وقت مضى كتطبيق لمبدأ حوكمة الشركات أو المشاريع:

  1. أن تلتزم بالقوانين واللوائح المرتبطة بالنشاط الاقتصادي على وجه الخصوص متمتعة بذلك بالذكاء القانوني(legal astuteness) كميزة تنافسية لها بمعنى أنها تلتزم بتطبيق سياسة الامتثال (9)The compliance .

  2. أيضاً يتوجب عليها أن تقوم بالتأمين ضد المسؤولية المدنية (العقدية والتقصيرية) عن أعمال جهازها التنفيذي أو الإدارة العليا لمواجهة التهديدات التي قد تتعرض لها أثناء الإدارة.

 

التحكم في المخاطر وإدارتها

في ظل المتغيرات الاقتصادية أضحى واجباً على المشاريع الاقتصادية التقيد والالتزام بالقوانين واللوائح المحلية ومعايير مكافحة الفساد وأخلاقيات التجارة الدولية واحترام الجهات الرقابية بالدولة ومكافحة الرشاوي وهذا يتم عبر وجود رقابة فعّالة بالشركة واحترام مبادئ المنافسة الشريفة بين المشروعات كما سبق وأوضحنا حول ما يعرف بسياسة الامتثال القانوني The compliance والهدف إنجاح المشروعات والحفاظ على سمعتها ومصداقيتها من خلال الحفاظ على العملاء والموردين، المقاولين والمنافسين ونحو ذلك(10).

إذن التقيد بمعايير الامتثال يعد أيضاً إدارة فعّالة للوقاية من المخاطر القانونية التي قد يتعرض لها النشاط الاقتصادي والتزامات النشاط الاقتصادي بتلك القواعد هو بحقيقته التزام بتطبيق قواعد الحوكمة ناهيك عن أنه حماية من الوقوع في المسؤولية أكانت مدنية كانت أم جنائية(11).

تلك أدوات قانونية كان لها الدور الفعال في الأخذ بالنشاط الاقتصادي نحو النجاح فهل هناك ثمة دورٌ آخر للقانون  في ذلك؟

أهميـــة التأميـــن ضد المسؤولية المدنية

  • أن موضوع عقد التأمين سيغطي الأضرار التي تلحق الإدارة العليا وأعضاءها عند الرجوع عليها بالمسؤولية المدنية وبالتالي سيحقق حماية للمصلحة المشتركة بين الشركة كشخص معنوي (12).

  •  هذا العقد التأميني يعد إذن من آليات إدارة المخاطر داخل المشاريع الاقتصادية وهو عقد تأمين شامل ضد كل مخاطر النشاط الاقتصادي باستثناء المطالبات التي اتفق على استبعادها بالعقد(13) كما أنه بات معلوماً بأن عقد التأمين أيضاً قد لا يغطي الأخطاء العمدية أو العمل الاحتيالي المرتكب من المؤمن له(14).

  • يستطيع النشاط الاقتصادي ممثلاً في الشركة أن يرفع دعوى المسؤولية على أعضاء الإدارة العليا بسبب الأخطاء التي أضرت بها لأن أعضاء الإدارة العليا يسألون عن الأضرار التي تصيب الشركة نفسها بسبب خطئهم بإدارة الشركة كما هو الحال(15) عند تحقق الآتي على سبيل المثال :

  • تقصيرهم عن مقاضاة دائني الشركة.

  • اقراض الآخرين دون التحقق من ملائتهم.

  • عدم العناية بحسابات الشركة.

  • اخلالهم بالقوانين المتبعة.

  • انتهاكهم النظام الأساسي للشركة.

  • تقيد الشركة من عقد التأمين عندما ترفع عليها دعوى المسؤولية المدنية من قبل المساهمين نتيجة الضرر الشخصي الذي أصابهم(16).

  • تقيد كذلك الشركة من  عقد التأمين عندما تلزم الإدارة العليا بالتعويض جراء أخطاءها بإفلاس الشركة، هنا وثيقة التأمين حتماً ستغطي الديون.

 


(1) لذا ظهرت جهات متخصصة تعنى بوضع المعايير المساعدة للمشروعات الاقتصادية لإدارة المخاطر القانونية مثل جمعية التأمين وإدارة المخاطر في الصناعة والتجارة في إنجلترا AIRMIC وجمعية إدارة المخاطر في فرنسا ARNRAE .

(2) للمزيد يراجع: د. برابح حمزة، الحوكمة ودورها في تحسين التسبير للجهاز الإداري المحلي ومتطلبات التطبيق، دار الحامد للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2018 .

(3) Vaughan, j. Emmett, fundamentals of risk and insurance, john wiley sons inc, somerest, newjersey, u.s.a 1999, p7

(4) بطبيعة الحال هناك ضوابط قال بها البعض كالتمسك بمبادئ الإفصاح والشف فيه والتدقيق لحماية حقوق المساهمين وتطوير أساليب التسويق والمحاسبة أي تطبيق سياسة الامتثال كمعايير مكافحة الفساد والالتزام بأخلاقيات العمل التجاري دولياً.

(5)

 مبادئ الحوكمة تختلف من دولة إلى أخرى إلا أنه من الناحية الدولية يمكن القول أن هناك ستة مبادئ جاءت في مبادئ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية:

  1. ضمان وجود أساس لاطار فعّال كحوكمة الشركات.
  2. خفض حقوق المساهمين.
  3. معاملة المساهمين بالتساوي.
  4. دور أصحاب المصالح في أساليب ممارسة سلطات الإدارة.
  5. الإفصاح والشفافية.
  6. مسؤوليات مجلس الإدارة أو الإدارة العليا.

انظر في ذلك: 

Htt:/www.org/da6/ca/corporategovernment principles/3503 207. Pdf.

(6)  د. عبدالله راشد الشبلي، نحو تجاوز تحديات حوكمة الشركات، يحث منشور في مجلة الحقوق، جامعة الكويت، مجلس النشر العلمي العدد3السنة 43، 5سبتمبر 2019.

(7) يعرف عقد التأمين 

(8)  مع الأخذ بالاعتبار أن وثائق التأمين من المسؤولية المدنية غالباً ما تستثني الخطأ العمدي من الضمان.

(9) Robert c.bird,law,strategy and competitive advantage,Connecticut law review 2011,volume44 ,n01,p.64

(10)  فمثلاً وجود عيب بمنتج ما يتوجب على الشركة معالجته أما اهماله فيعني أن تكون هناك شكوى أولاً لدى حماية المستهلك وإلا فالقضاء وفي ذلك تفقد الشركة المصداقية وكثيراً ما نجد عدم الاهتمام بذلك من قبل الشركات المنتجة وهو عمل لا ينهض بها بل يمثل إدارة حقيقة للمخاطر.

(11) تعد مؤسسة morgan stanly المصرفية بالولايات المتحدة الأمريكية أشهر المؤسسات الناجحة من خلال تطبيق نظام The compliance بداخلها:

www.forbes.com/sites/howard sktar/30/4/2012 the most marketable- compliance-afficer-in the word.

انظر أيضاً :

Amy Conway,hatcher,the big three fcpa lessons from the morgan stanly case,keye scholer llp,company review,14june,2012

(12)  إذن بعقد التأمين هذا الشركة هي من تحدد الأشخاص المؤمن ضد أنشطتهم المتعلقة بإدارة الشركة والتي ستصيب الغير بأضرار يلزم بالتعويض عنها وهي أي الشركة الملزمة بسداد أقساط التأمين.

(13) للاطلاع على نماذج عقود التأمين لدى شركات التأمين الأوروبية انظر: http:/www.aigassurance.fr/ 

Charis/internet/fr/fr/do%20sme%20-%20faq-tcm3941-560153.pdf

(14) بطبيعة الحال شركة التأمين ستطلب من الإدارة الإفصاح عن الوضع المالي والمخاطر القانونية والاقتصادية إذ يمكن أن تتعرف لها الشركة فضلاً عن البيانات المتعلقة بالميزانيات العمومية وحساب الأرباح والخسائر عن السنوات السابقة أو بعدد من السنوات وحجم السيولة المتوفرة ومدى قدرة الشركة على سداد الديون والقضايا المرفوعة عليها على غير ذلك من الأمور التي لا يجب أن تغفل عنها شركة التأمين قبل إبرام العقد حتى تتمكن من تحديد قيمة العقد.

(15) انظر قانون الشركات التجاري العماني 18/2019 وعلى وجه الخصوص المادتين:206-268حول مسؤولية الإدارة.

(16) الضرر الشخصي يجب أن يحدث للمساهم بشكل يميزه عن الضرر الذي يصيبه باعتباره جزء من كيان الشركة والذي يصيب مجموع المساهمين لأن هذا الأمر تتولاه الشركة نفسها إلا إذا تقاعست عن رفع الدعوى فنشأ عن ذلك ضرر أصاب المساهمين هنا خول القانون للمساهم رفع الدعوى كدعوى فردية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق