عاش “المتنبي” حياة مليئة بالخلافات فمديحه لسيف الدولة الحمداني لم يكن سببا لبقائه في ضيافته وعلى أرض بلاطه، بل سرعان ما غادر متوجها إلى مصر حيث كافور الإخشيدي، الذي استلم زمام السلطة رغبة في مديحه لعله ينال قطعة أرض يصبح واليا عليها، قبل أن يعود ويهجوه بقصيدة مرة أثناء هروبه وعودته إلى صديقه الحلبي.
“المتنبي” بهذا الصنيع ليس وحيدا، فالكثير مثله، يطمحون إلى مناصب عليا أو الوصول إلى حظوة عند الأمير أو الخليفة، والعيش في نعيم داخل البلاط، لكن ما جعله الأشهر بينهم هو بحثه المستمر عن هذا التقدير والتكريم، الذي لم يحصل عليه، فاستمر يتغنى بذاته، إلى أن تضخمت، واستفحلت، ومثلت حالة مرضية.
من الشعراء المصابين بالأزمات النفسية كذلك “ابن الرومي”؛ حيث اشتهر عنه (التطيُّر)، فكان لا يخرج من بيته إلا إذا اطمأن إلى خلو الطريق من الغرباء، وحين يخرج يوما ويجد أمامه غراباً، فسرعان ما يعود أدراجه ويغلق بابه عليه لأيام، وهي حالة من حالات المرض النفسي الوسواسي، وقد زادها وعمقها فقد ولده.
أما الشاعر “المعري” فهو الشهير بالتشاؤم وكره الحياة؛ حيث اعتزل الناس، وفضل البقاء وحيداً، رفقة لفيف من الأصدقاء، الذين لا يتعرضون له بالسخرية والاستهزاء، وكان من آثار اعتزاله أن سُمي برهين المحبسين؛ والمحبسان (الحبسان) المقصود بهما: عماه، وداره.
والحطيئة الشاعر الجاهلي الذي أدرك الإسلام، اشتهر عنه الهجاء الذي يصل في بعض الأحيان إلى الفحش، وبسببه قيّد الخليفة عمر بن الخطاب حركته، فأودعه الحبس نظير جرأته على الأعراض، بعد أن اشتكاه الزبرقان بن بدر، ولولا استعطافه لعمر، لظل حبيس السجن فترة طويلة.
لعل أشهر شاعرين امتهنا الهجاء، وعاشا حياتهما يتقلبان على ألسن الناس، وحظيا بمتابعة كبيرة، وربما بمباركة السلطة الأموية القائمة آنذاك؛ هما “الفرزدق وجرير”؛ حيث اشتركا في مهاجاة لا تتوقف، شغلت الرأي العام، وانقسم الناس بسببهما إلى فريقين: أحدهما يرى الفضل للفرزدق، والآخر لجرير.
دعبل الخزاعي شاعر العلويين في زمانه، والمنتمي إلى مدرسة أهل البيت، ظل طريداً من السلطة العباسية، ومختفياً عن الأنظار، أكثر من أربعين سنة، وكان يتهكم على حاله، ويصف نفسه بأنه ما زال يحمل خشبته على ظهره، منذ خمسين سنة، ولا يجد من يصلبه عليها، ومن خلال حديثه يمكن استشفاف مقدار المأساة التي كان يعيشها.
لا تقتصر الأمراض النفسية والوساوس على الشعراء، فالأدباء والكتاب لهم نصيب أيضا، فهذا أبو حيان التوحيدي، عاش فقيراً معدماً يتصدق عليه جيرانه، رغم صداقته للأمير ومجالسته إياه، حيث ظل الألم الداخلي، والإحساس بأنه غير مقدّر؛ يعبث بمشاعره، مما دفعه أخيراً إلى دفن كتبه، وقيل أحرقها قبل موته.
الجاحظ الكاتب الكبير والذي يقال بأنه ألف أكثر من ثلاث مائة وستين كتابا، عاش وحيداً، ومات مختنقاً تحت كتبه، التي هبطت عليه، ولم يستطع فعل شيء لنفسه؛ لأنه كان مشلولاً لا يستطيع الحركة، أما ابتعاده عن النساء، وعدم اقترانه بزوجة، فليس هناك من اكتشف السبب، ولعله اعتقد بأنه لو تزوج فلن يهنأ بحياته وكتاباته.
أمثلة كثيرة وعديدة على الأمراض النفسية التي تعصف بالكتاب والأدباء والشعراء والروائيين، ولا يكاد يخلو واحد منهم من همّ ينغِّص عليه حياته، ويدفعه ناحية سلوك معين؛ يُظهره شاذاً أو غريباً في مجتمعه، ولعل النسبة الكبرى لو استقرأنا تاريخنا الطويل ربما جاءت لصالح الشعراء.
والسؤال: هل الكتاب والأدباء والشعراء أكثر من بقية البشر في الإصابة بالأمراض النفسية؟ أعتقد أن المبدع عموماً أكثر حساسية تجاه المشاعر والأحاسيس، والشاعر يتفوق على غيره في هذا الأمر، لذا ليس غريبا أن يُعتقد بإصابته بمرض نفسي جراء تصرفاته التي لا مسوغ لها، في نظر الذين من حوله.
قد نصل إلى استنتاج، ربما وافقه البعض، ورفضه آخرون، وهو أن البيئة الثقافية تعتبر مستشفى كبيراً تتماوج في داخله الكثير من الأرواح المصابة بالأزمات والمشكلات النفسية، التي تلقي بظلالها على الناس، وتؤثر فيهم.