العام
السلطان هيثم الخصال الشخصية في قيادة الأمة
منذ أن ظهر صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله في العيد الوطني التاسع والأربعين أظلت نفسي سحابة من الحزن، فقد بدت آثار الرحيل على وجهه، وقد سيطر عليّ هذا الهاجس، ولما شاع نبأ تدهور صحته في أيامه الأخيرة أخذ القلق يتصاعد: هل ستفقد عُمان في هذه الأيام قائدها والمنطقة المحيطة بنا تعصف بها رياح هوجاء من الصراعات، وقد أصبح اندلاع موجة ملتهبة من الحرب بالجوار -إضافة إلى سائر الحروب الأخرى- قاب قوسين أو أدنى؟ هذه الحرب التي قُرعت كل الطبول لها.. لا أمل بأن يوقفها -لا سمح الله لو قامت- إلا رجل السلام وصاحب المهمات الجسام السلطان قابوس بن سعيد، ولكنه الآن على فراش الموت.
خميس بن راشد العدوي
كل هذه الهواجس كانت تعصف بالنفس، ولم أكن أملك إلا التوجه بالدعاء لكي يشفي جلالته ويمد في عمره، وهو الأمر الذي لهجت به السلطنة بأسرها.
في يوم الخميس 26 ديسمبر 2019م؛ وصلت مكتب وزير التراث والثقافة في الساعة التاسعة والخامسة والخمسين دقيقة صباحاً، فوجدت رئيس المكتب يستقبلني، فقد كان الموعد مع صاحب السمو السيد هيثم بن طارق في الساعة العاشرة، وما هي إلا دقائق معدودة، حتى طلب مني رئيس المكتب الدخول، فوجدت سموه كعادته يرحب بي، وما إن جلست حتى سألته قائلاً: سيدنا.. كيف صحة مولانا المعظم الآن؟ فقال: الحمدلله على كل حال، ونسأل الله له الشفاء. فقلت: اللهم اشفه وامدد في عمره. ثم تكلم سموه بإجلال عظيم عن السلطان قابوس، وتقدير عميق، وبأنه لم يألُ جهدًا في بناء دولة مكينة البنيان، جعلها على مصاف دول العالم المتمدن، وأن أجيالاً بأكملها نشأت على حب جلالته. وعند الساعة الحادية عشرة وبعد أن انتهينا من ملفات العمل، استأذنته، وإذا به يودعني بالترحاب مثلما استقبلني، وهذه عادته التي ألفتها منه في كل اللقاءات التي جمعتني به.
كان هذا اللقاء مؤثرًا جدًّا في نفسي، فقد أزاح عني حمولة القلق والتوجس، فبعد أن خرجت من عنده دخلت في حديث نفسي، فقلت: أرجو الله أن يشفي جلالة السلطان قابوس، ومهما كان الحال، فإن السلطنة في أمان بإذن الله، فهذا صاحب السمو السيد هيثم بن طارق -وهو ركن من أركان الدولة- يدير عمله على أكمل وجه، ويناقش المواضيع كعادته بروية وحكمة ولطف، وهذا مؤشر على أن الدولة تعمل مؤسساتها باقتدار، مما يدل على أن السلطان قابوس سيترك دولة قوية لا تؤثر عليها زعازع الأيام، وهذا أيضًا ما يفسر أن في السلطنة؛ أيام مرض جلالته رحمه الله، ولحظة انتقال الحكم، وهي لحظة حاسمة جدًا، لم يشعر الناس بأي خوف حيال عُمان، رغم قلق الانتظار من صحة جلالته.
وما إن أُعْلِن السيد هيثم بن طارق سلطانًا على عُمان حتى غمرتني تلك الطمأنينة التي خرجت بها من اللقاء به، وقلت: إن استواءه على عرش السلطنة قد بدد أي قلق في نفوسنا على عمان، وأن جلالته حفظه الله قادر بأن يبث الطمأنينة في العمانيين من أول يوم استلم فيه الحكم بتاريخ 11 يناير 2020م، وكان ذلك واضحًا من خطابه الذي ألقاه للشعب بمناسبة توليه الحكم.
إن معرفة بعض جوانب الإنسان النفسية والاجتماعية تلقي الضوء على مآلات أعماله وتستشرف منجزاته، وهو ما سأتكلم هنا عنه -في هذه الفرصة الرائعة التي سنحت لي- بما عرفته عن قرب في شخصية جلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله وأيده بعونه.
من أهم ما لمسته في جلالته هو تواضعه الجم، وهو ما ينم عن أخلاق رفيعة، لأن النفوس الكبيرة هي وحدها تلك التي تتحلى بالأخلاق، ورأس الأخلاق إنما هو التواضع، ولذلك كنت أسعد جدًّا عندما أعرف بأني سألقاه، فهو بحق مدرسة في الأخلاق، وهو يفعل كل ذلك بسجية من سجايا النفس، ولم ألحظ عليه قط شيئًا من التصنع، وهذا ما يزيح بينك وبينه أي حاجز للتكلف، فتنجز عملك معه بأريحية تامة، وتعرض ما عندك دون وجل رغم علو مقامه وسمو مكانه، وكأنما الشاعر قال فيه:
شرف في تواضع واحتمال
في اقتدار وهيبة في حياء
ومن صفات جلالته أعزه الله الجليلة أنه ينصت لمحدثه، فلا يقاطعه، وهذه صفات أخلاقية تحبب الناس فيمن اتصف بها، كما أنها سمة من سمات النجاح في إدارة العمل، فهو يترك لك المجال حتى تبسط الموضوع متكاملا، ولا يتدخل إلا إن لزم الأمر، كاستفهام لزيادة التوضيح، أو طلب بيان لأمر مجمل، ونحو ذلك، وبعد أن يستمع إليك جيدا يجيبك عن كل ما يلزم الجواب، دون أن يترك عنصرًا جرت مناقشته. وهو فوق ذلك.. يستحضر كل عناصر الموضوع، وإن كان قد مر عليه زمن، وهذا من سمات القائد الناجح، حيث يلم بأطراف الموضوع كله، وما لفت نظري في ذلك هو ذكاؤه وحفظه، حيث إن كل المواضيع بأطرافها وعناصرها يستدعيها من ذاكرته، وربما غفل محدثه عن شيء فيذكره هو؛ رغم مشاغله الكثيرة ومهامه الجليلة.
وجلالته حفظه الله دقيق في المواعيد، حريص على الإيفاء بها، فإذا كان لديك معه موعد؛ فإنك لا تطيل الانتظار على بابه، فما هي إلا لحظات حتى تدخل معه. ومما لفت نظري كذلك أن مدخل مكتبه لا يوجد به باب فضلا عن أن بابه يوصد، وهذا يحكي فلسفته في إدارة العمل، فلا حاجز بين جلالته وبين الناس، وإنما المهم هو عُمان التي يجب أن تدار بحسن التواصل بين مكوناتها؛ سلطانًا وشعبًا وحكومة.
وحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق أعزه الله مدرسة في الإدارة بالأخلاق، وهذا نوع رفيع من أنواع الإدارة، حيث يشعر الإنسان في ظلها بإنسانيته وكرامته، فيقبل على العمل، وتتعزز لديه الدافعية للعطاء، فينجز بإبداع ورضا، ومن يتعامل مع جلالة السلطان هيثم أيده الله يتحلى لقربه منه بالأخلاق، ويكتسب كثيرًا من العوامل التي تعينه على أداء عمله، وتزرع فيه الرغبة في الإنجاز، كيف لا؟ وهو يمنحه الثقة بالنفس وإنصاف الآخر، فمن عادته أيده الله بالإضافة إلى أنه يضع فيك الثقة ويترك لك المجال لتدير عملك، فهو كذلك إن أنجزت عملا ووفيت فيه يقدم لك الشكر ويظهر لك الاستحسان، كما أنه يذلل العقبات ويحل المشكلات التي تصادفك في العمل، كل هذا قد لمسته من جلالته حفظه الله.
وهذه صفات جعلته محبوبًا بين الناس، قريبًا منهم، وأتذكر أنه لما قررنا في مكتبة الندوة العامة ببهلا أن نقيم ندوة «الدور الحضاري والتاريخي العماني» في عام 2014م، اتفق رأي الزملاء في المكتبة على أن ندوة بهذا العنوان نحتاج لرعايتها صاحب السمو السيد هيثم بن طارق، فهو أفضل من يقف على الأبعاد الحضارية للتاريخ العماني؛ استيعابا وعملا، ولما جرت مخاطبة مكتبه، وجاءت الموافقة الكريمة من لدنه، فرح أهالي ولاية بهلا، وعقدنا الندوة في حصن بهلا، ومع سعة المكان فقد ازدحم بالحضور، ولا يزال صدى المحبة التي لمسها الناس من لدن جلالته منذ ذلك اليوم تتردد في النفوس، وتشحذ الهمم للعطاء الحضاري في المكتبة.
هذا يجعلنا على إيقان تام بأن النهضة العمانية ستواصل سيرها نحو غد أفضل، وستتواصل همم العمانيين في الإنجاز والتقدم تحت القيادة الحكيمة لعاهل البلاد المفدى صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله وأيده بروح منه.