مقالات

محطات مع جلالة السلطان هيثم

جاء إلى مجلس عُمان ككل الحزانى الذين فقدوا آباءهم إلا أنه كبر على الحزن لأن عُمان أكبر من الكل.
وحمل النعش على كتفه ككل الذين حملوه ومشوا به من المحراب إلى عربة المدفع إلا أنه لم يشعر بثقل الحدباء قدر الشعور بثقل الوصية وثقل المسؤولية وثقل البدء بالنهضة العمانية الثانية.  
وطوال نصف قرن لم تعرف عُمان موقع الرجل الثاني فكل الكبار اصطفوا في الموقع واقتربوا منه وتداولوا المهام ومثلوا سيد عمان في القمم وفي رعاية المناسبات الكبرى.
وكان حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ورعاه أحد هؤلاء الذين اقتربوا كثيرا من الموقع وملأوه باقتدار.

محطات توقف عندها
حمود بن سالم السيابي

ولقد توقفت عُمان طويلا عند التكليف السلطاني برئاسة ملف عمان ٢٠٤٠ كرؤية للمستقبل فرأت في التكليف إشارة للرجل الذي اصطفاه جلالة السلطان الراحل ليكون خياره الأوحد لاستحقاقات عُمان، ورأى فيه السلطان الذي سيقود عُمان في رحلتها إلى المستقبل.
وبدا البعض في مشهد الانتقال السلس للحكم متأكدا من أن الأمر حسم، فكانوا يسابقون معالي السيد خالد بن هلال البوسعيدي وزير ديوان البلاط السلطاني ومعالي الفريق أول سلطان بن محمد النعماني وهما يقرآن الوصية ويذكران اسم هيثم بن طارق كسلطان لعُمان نال ثقة السلف العظيم كخير خلف.
ولم يتفاجأ الشارع العماني بهذا التكليف السامي، فالسلطان هيثم هو ابن الأرومة الشريفة والسلسلة البوسعيدية الذهبية وهو سليل السلاطين، فجده السلطان تيمور بن السلطان فيصل بن السلطان تركي ومن سلطان إلى سلطان حتى الأب المؤسس الإمام أحمد بن سعيد.
ولم يقتصر الأمر مع الجدود من السلاطين بل امتد إلى الأعمام وأبناء الأعمام فعمّه السلطان سعيد بن تيمور، وابن عمه السلطان قابوس بن سعيد.
ولم يكن الداخل العماني هو المدرك الوحيد لهذا التسلسل بل الخارج أيضا لم يتفاجأ بالتكليف السامي من خلال معرفته لمدى تجذر الاسم في الأصلاب الشامخة كابرا عن كابر عن كابر.
ولعل البعض قد يقول إن هناك أكثر من شخص بين صفوف الكبار تتكرر فيه نفس السمات، إلا أن جلالة السلطان هيثم بن طارق كان الوحيد الذي أنيطت به إدارة ملف المستقبل.
ومن المفارقات بين الزمنين أن الراحل العظيم قابوس بن سعيد طيب الله ثراه جاب العالم قبل أن يتقلد المهام خلفا لأبيه، وجاء إلى الزمن العماني دون أن يرى عاصمة ملك آبائه وأجداده إلا ساعة انفتح باب الطائرة التي أقلته من صلالة وحطت به على مدرج مطار بيت الفلج ليبدأ صياغة التاريخ فكانت مسقط جديدة عليه ولم تتكحل عيناه بجبالها وقلاعها وبيوتها ودروازاتها الا في صور الكتب التي ألفها الغربيون الذين سكنهم سحر الشرق.
بينما جلالة السلطان هيثم بن طارق هو ابن مسقط وابن أمسها الضارب في القدم وابن مدارسها.
ومن المفارقات أيضا أن السلطان طيب الذكر لم يعرف حتى وجوه أفراد العائلة المالكة إلا من ألبومات قصر الحصن أو من الذين زاروا صلالة أو التقاهم في تجواله في الهند وبريطانيا، فضلا عن أن يعرف عامة الناس.
بينما جلالة السلطان هيثم حفظه الله ورعاه كان ينادي بالاسم عددا من الذين تزاحموا في قصر العلم لتعزيته ومبايعته فقد عاش معهم وزاملهم على مواقع الدراسة.
ومع عودة المبايعين إلى بيوتهم اختلى بعضهم بأنفسهم وذكرياتهم ليقلبوا في الألبومات التي تجمعهم مع الذي صافحوه في قصر العلم العامر وناداهم بأسمائهم وهو يرد التحية بأحسن منها.
وقد حملت حسابات الفيسبوك والتويتر والأنستغرام الكثير من صور الذكريات مع سيد عمان الجديد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله ورعاه.
وكنت أحد الذين قلبوا ملفات الأمس واستعادوا مجد اللحظة.
وعلى السيح الذي اكتسى لون البزة العسكرية وعبرت وهاده وهضابه لأول مرة دبابات قيد الأرض وهي تشارك في المناورة الكبرى «رعد» التي جمعت لواء شمال عُمان ولواء جنوب عُمان إلى جانب كتيبة الدبابات والمدفعية والأسلحة المساندة لكل الفروع.
وقد التقيت هذا القادم إلى تاريخنا من ذرى التاريخ في أبريل من عام ١٩٨٥ وكان مشاركا في تلك المناورة العسكرية الكبرى فرأيته ولأول مرة وقد ارتدى بزة الميدان.
كان حفظه الله ورعاه يشغل وقتها موقع رئيس الشؤون الأوروبية والأمريكيتين بوزارة الخارجية، وكنت أمثل جريدة عُمان كمراسل عسكري من ساحة المناورة فارتديت نفس البزة.
كانت البزة تليق به وقد ساعده الطول الفارع ليضيف للهيبة هيبة.
سألته عن انطباعاته كمشارك في مناورة رعد فقال: إنني فخور جدا وأعتز بهذه المشاركة في المناورة وهي فكرة رائعة أن نشارك إخواننا الجنود والضباط في هذا التجمع العسكري الكبير وأن نرى جلالة القائد الأعلى للقوات المسلحة بين أبنائه من أفراد قواته المسلحة فنقف عن كثب ونتابع إخواننا العسكريين وهم ينفذون برامج هذه المناورة منوها بالفوائد التي ستعكسها المناورة على المشاركين في مراحل حياتهم المختلفة.
وتحدث عن دلالات اللفتة الكريمة بإشراك دبلوماسيين في مثل هذه المناورة الكبرى فقال:
إن هذه اللفتة الكريمة تدل على حرص القائد الأعلى للقوات المسلحة وهو بين أبنائه من أفراد قواته المسلحة والمسؤولين في حكومته الرشيدة في أن يكون الدبلوماسيون على اطلاع تام لما يحدث في القوات المسلحة وقد شاءت اللفتة الكريمة لجلالته أن يكون عدد من موظفي وزارة الخارجية متواجدين في هذا التجمع العسكري ليكونوا على دراية تامة بقدرة بلادهم العسكرية ولذلك وقع علينا الاختيار  فوجودنا بين إخواننا العسكريين هو أولا للاطلاع والتعرف والثاني الإلمام التام بهذه القدرات التي تؤهلنا حين نكون خارج المنطقة في أن نكون أكثر قدرة في إعطاء الرد الصحيح عن هذه القوة.
منوها إلى أن الدبلوماسيين والعسكريين كلهم جنود لهذا الوطن وأن الكل يؤدي واجبه الوطني في موقعه.
وفي سبتمبر من نفس العام أوفدتني جريدة عُمان وزميلي عبدالله بن شامريد الرئيسي إلى نيويورك لحضور الدورة الأربعين للجمعية العامة للأمم المتحدة وقد تزامن انعقاد الدورة الأممية مع وصول المفاوضات العمانية مع الاتحاد السوفياتي إلى مرحلة التوقيع على اتفاق المبادئ في خطوة وصفت باللافتة مع أحد القطبين في العالم لتنهي بها صفحة سوداء كان فيها المعسكر الشرقي بقيادة السوفييت والصينيين يغذيان الشر في المياه الدافئة ويصدران الأيديولوجيا ويشعلان حربا عقائدية ويهددان استقرار عُمان.
وقد سبق ونجحت عُمان بتحييد الصين وبدء علاقات دبلوماسية معها تكللت بفتح السفارات في مسقط وبكين فجاءت الخطوة التالية مع الاتحاد السوفييتي حيث كلف الراحل العظيم جلالة السلطان قابوس طيب الله ثراه (صاحب السمو السيد) هيثم بن طارق رئيس الشؤون الأوروبية والأمريكيتين بوزارة الخارجية للتوقيع نيابة عن السلطنة على اتفاق المبادئ مع السوفييت.
يومها تحرك الموكب من مقر الإقامة باتجاه البعثة السوفييتية الدائمة في نيويورك.
وقد صحبه كل من السفير سعود بن سالم العنسي المندوب الدائم للسلطنة لدى الأمم المتحدة والسفير سالم بن حسن مكي رئيس شؤون المؤتمرات والمنظمات الدولية بوزارة الخارجية ومحمد بن سعيد اللواتي الدبلوماسي بالبعثة العمانية الدائمة بنيويورك.
وكنتُ وزميلي عبدالله بن شامريد الرئيسي في قلب الحدث ندخل بعثة كانت بالنسبة لنا كإعلاميين عُمانيين من المحرمات السياسية، وإذا بها في عصر البيروسترويكا التي قادها جورباتشيف تراجع حساباتها وأجنداتها وتصديرها للأيديولوجيات.
وفي داخل البعثة التي كان ينظر إليها كوكر للجاسوسية السوفييتية على الأمريكان العدو اللدود للسوفييت وعلى الغرب الامبريالي المتحالف معها
جلس (صاحب السمو السيد) هيثم بن طارق حفظه الله ورعاه قبالة جورجي أم كورنتكو النائب الأول لوزير الخارجية في جمهوريات الاتحاد السوفييتي وبجانبه أولج تروفانوفسكي المندوب السوفييتي الدائم لدى الأمم المتحدة.
وقد تبودلت الكلمات الترحيبية ونقل (صاحب السمو السيد) هيثم بن طارق حفظه الله ورعاه تحيات حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم إلى القيادة السوفتية.
بينما نقل جورجي أم كورنتكو النائب الأول لوزير الخارجية في جمهوريات الاتحاد السوفييتي تحيات الرئيس السوفييتي ميخائيل جورباتشيف.
وبعد حفل التوقيع سألنا (سموه) ونحن نعيش انتصارا سياسيا حولت فيه الدبلوماسية العمانية أعتى الأعداء إلى أهم الأصدقاء انسجاما مع رؤية الراحل طيب الذكر بتوسيع رقعة الأصدقاء وتقليل رقعة الأعداء قال (سموه) حفظه الله ورعاه عن اللحظة الماجدة:
إن هذه الخطوة تأتي ترجمة للسياسة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم القائمة على توسيع دائرة الأصدقاء في العالم خاصة وأن السلطنة تسعى دائما إلى أن تكون لها علاقات مع الدول المحبة للسلام.
وأضاف أن العلاقة مع موسكو جاءت متأخرة الا أن النية كانت موجودة.
وقال إن الاتصالات كانت قد تمت قبل فترة بين حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم والزعيم السوفييتي السابق أندروبوف وأن توقيعنا على اتفاق المبادئ اليوم كثمرة لتلك الاتصالات.
وتحدث عن الخطوة التي ستعقب التوقيع وقال إن تبادل التمثيل الدبلومسي سيأخذ وقتا لأن العلاقات ما تزال في بدايتها ونأمل أن تتطور هذه العلاقات في المستقبل ويكون هناك تعاون مثمر بين البلدين في مختلف المجالات وعلى أساس من الاحترام المتبادل.
كانت الخطوة العمانية في توقيتها زمانا ومكانا فاجأت الجميع.
وأذكر أنني وزميلي عبدالله بن شامريد الرئيسي دخلنا مبنى الأمم المتحدة وكنا على موعد مع السيد شفيق الحوت ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان فاستفتح اللقاء بالتهنئة بالخطوة العمانية تجاه معسكر كبير يمثله أحد قطبي العالم.
وكانت المحطة الثالثة والأهم بالنسبة لي وجدانيا ووطنيا على خط التشرف بالمثول بين يدي جلالة السلطان هيثم بن طارق هي الجزائر في يوليو من عام ١٩٩٤ إثر تعرض شقيقي هلال بن سالم السيابي السفير العماني بالجزائر لحادثة الاختطاف الشهيرة هو والسفير  اليمني بالجزائر  حيث وجَّه الراحل العظيم جلالة السلطان قابوس المعظم  (صاحب السمو السيد) هيثم بن طارق وكان يشغل موقع وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية بمتابعة الحادث مع الجانب الجزائري فالتقيت (سموه) حفظه الله ورعاه في جنائن الميثاق أجمل أحياء الجزائر حيث يحل كبار الشخصيات من ضيوف الجزائر بصحبة أخي بدر بن سالم السيابي وقد أنهى لتوه سلسلة لقاءات أمنية وسياسية مع الجانب الجزائري.
وتجدد اللقاء وكان هذه المرة ببيت السفير العماني بالجزائر حيث شرف حفظه الله ورعاه المكان يرافقه القائم بالأعمال حمد المحروقي والدبلوماسيان راشد الغيلاني وخالد العزيزي.
كان قدومه ميمونا كطالعه اذ انتهت محنة الاختطاف بعد أسبوع من المعاناة أوشكت فيها الأمور لأن تحمل نذر شر، فاقتربتُ من مقامه مهنئا مقدم الخير في وجهه.
وقد تلقى سيد عُمان قابوس بن سعيد بشرى انتهاء عملية الاختطاف ليلة الاحتفال بيوم النهضة في الثالث والعشرين من يوليو.
وبين المحطات الثلاث كان لي شرف التواجد كموفد من جريدة عُمان إلى قمم مجلس التعاون لدول الخليج العربية في أكثر من عاصمة تدرج خلالها حفظه الله من رئيس الشؤون الاوروبية والأمريكيتين إلى وكيل لوزارة الخارجية للشؤون السياسية إلى أمين عام لوزارة الخارجية بدرجة وزير.
وكان حفظه الله ورعاه بجانب سلفه العظيم كعضو في الوفد المرافق فيجلس خلف جلالته بجوار صاحب السمو السيد فهد بن محمود وصاحب السمو السيد أسعد بن طارق في مشهد مهيب يليق بعمان.
وبعينين باكيتين تابعت مشهد الرحيل لسيد عُمان كالملايين الذين تابعوه وبكوه وما زلت أبكيه.
وتوقفت كالملايين غيري عند الانتقال السلس للحكم حيث نال إجلال وإكبار القاصي والداني فيتملكني الزهو بعُمان المتحضرة وهي تحسم خياراتها في الرجال والرسالات والرؤى والمشاريع.
لقد بدا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله ورعاه رابط الجأش رغم الرزء الجلل وهو يقسم اليمين.
وظهر في مشهد شامخ تستحقه عُمان الصابرة رغم الجرح.
وكان خطاب العرش خطاب الوفاء للأب القائد، وخطاب العهد لتكملة مشروعه النهضوي.
ورغم الألم الذي ينخر حتى نخاع النخاع فإن الكل استشعر الحاجة للتذرع بالصبر لتبقى عُمان دوما هي الأكبر فتلك سنن الله وأحكامه.
وإذا كانت عُمان قد بدأت نهضتها العملاقة عام ١٩٧٠ فهي نهضة موصولة وممتدة، وهي على موعد ببدء نهضتها الثانية في ٢٠٢٠ بقيادة سيدها المعظم.
رحم الله باني نهضة عُمان الحديثة قابوس العظيم، وأنزله منازل الصالحين وحفظ الله سلطاننا المعظم هيثم بن طارق وأعانه وهو يترسم الدرب والنهج والمنهج.
——————————
هامبورج في الثامن من فبراير ٢٠٢٠م.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق