الثقافي
متحف العواطف
إشراق النهدي
«أحبه، مقدر أخليه» بدا صوتها مرتبكا، ينبع من جوفها باضطراب، تنتحب وتكبت دموعها، تحس زينب أن قلبها يتدحرج من على جبلٍ عالٍ، ويسقط في وادٍ مظلم سحيق.
صديقتها أميرة بعصبية، مقطبة الجبين، تصرخ: «إنتي جنّيتي أو شيء، تحبين هذاك الكافر؟ وفوق هذا متزوجة وعندش بنتين! ما تستحين على عمرش؟». زينب منهارة تجيب: «أيش دراني إني بحبه كذا؟ ما فكرت نفسي بأوصل لهالمرحلة».
اسمه فيليب جونز، أخضر العينين، كستنائي الشعر، بشرته بيضاء مختلطة بالحمرة والوردي، أعسر يعمل بيده اليسرى، يعلق كاميرا سوداء على رقبته؛ فل فريم من نوع كانون، بغالق سطح بؤري من النوع الإلكتروني.
قدم من بريطانيا بمهمة عمل لتغطية تصويرية للمتحف الذي كانت زينب مشرفته، فاضطرت لمرافقته وشرح الصور له، وسرد تاريخ كل ما في المتحف. عندما رأته أول مرة كانت تناديه «فيل» اختصارا لاسمه. وظلت تنكت وتتندر عليه باللهجة المحلية، عدا التعليقات الممازحة التي تفلت منها بين الحين والآخر، فاجأها ذات مرة، قائلا بابتسامة: «أنا أفهم اللغة العربية وأتكلمها جيدا»، هي صُدمت بذلك وبدأت تراعي وتتحفظ من رمي الكلام على عواهنه.
كان يأتي كل يوم في نفس الوقت كمنبه يحفظ مواعيد رنته، يقف بكل انضباط، وببسمة خفاقة على محياه، صوته غريب ببحة خشنة، وتعابيره محايدة ومغايرة لا تشبه أحدا آخر غيره، صوته ينبع من عمق الدفء فيحرق العواطف. نظرة عينه حنونة تشبه الحضن البريء أو الربت على الكتف، يلبس بدلات أنيقة بألوان تشبه صمت مختنق بصراخ مقموع.
كان وجوده صادحا كنقار خشب؛ يدق على المواطن الخفية، ويقلع القشور من على السطح، مثلما أطلق رغباتها من الصندوق الأسود العصي على الفتح. كانت في البداية تتأفف من طريقته في العمل، حيث إنه يقف مطولا ويلتقط عشرات الصور للشيء نفسه، ينظر من عدة زوايا باحتراف عجيب، يقترب ويبتعد كمن يُقدم على حرب، أو كأنه في مباراة أو مبارزة. ثم مع الأيام عرفت إنه يستمتع بعمله على طريقته الخاصة، فيكرس نفسه من أجله، فيليب يعتقد أن للأشياء زوايا مختلفة يمكن النظر منها لتبدو أجمل. فعيناه عميقتان قناصتان، يلتقط الصور وكأنه نحات يشكل المناظر والمجسمات. وذات مرة التقط لها صورة دون علمها قائلا: «سأحبس جمالك في صورة».
زينب طويلة لا تشبه أمها ولا خالاتها ولا أخواتها، كانت فريدة شامخة الطول كشجرة تتطلع إلى أشعة الشمس الوهاجة، زيجتها البائسة هي التي خفتت بهجتها، وجعلتها دون ضوء أو بريق. زوجوها لابن عمها المريض بالقلب. المنهك دائما، هي كالفراشة وهو كدب قطبي يغط في سبات أبدي عميق. لا يجاريها في شيء، لا بالعواطف ولا بالأفكار ولا بالطموح ولا حتى بالحركة. هي تتلقف الندى وتحوله إلى شلال وهو يحرق السجائر ليحيلها إلى رماد، هي أرض جياشة تشبه العروس باكتمال زينتها، وهو لا يكترث ولا تستهويه النجوم والأقمار.
يخرج كل ليلة برفقة أصحابه ويعود في منتصف الليل. لا يرى ابنتيه ولا زوجته ولا يتحدث معهن. بينما فيليب يتحدث كثيرا بل إنه في واقع الأمر يثرثر. يناقش كل شيء بالتفصيل، يحلل نسبة البياض والألوان في الصور. يرى زينب كشهرزاد تخرج من حكايات ألف ليلة وليلة وهي مرتدية حلتها السوداء ووشاحها الطويل، فيسألها دائما: «لما العباءات سوداء؟» فترد عليه بابتسامة، ولسان حالها يقول: «سودا مثل أحلامي الخايبة». ثم تزجر نفسها لتتفاءل.
كل يوم ومنذ أسابيع عدة وهي تسرد عليه القصص وتشرح له الصور وتفسر له التاريخ، يغتني هو من معارفها، وهي من الوقت المرح الثري بصحبته، فيعيشان في إطار من الألفة الكاملة والجرأة الناقصة، يرى شجرة اللبان في فناء المتحف فيظنها إمرأة تتوشح كريستالات صمغية مقدسة مرتبطة بالطقوس الدينية، يدخل القاعة التاريخية فينبهر مندهشا من عرض التضاريس والجغرافيا، ثم يلج القاعة البحرية، فتستهويه السفن وخاصة سفينة البغلة الكبيرة. يمشيان بمحاذاة بعض على الواجهة البحرية للمتحف، أو يجلسان في المقهى بمسافة كبيرة تكفي لبث الغراميات المنحبسة في جوف الصدور دون حروف أو تعبير لغوي. لكن الواقع ينط على قوس قزح حبهما فيصبح كل شيء رماديًا أو أسود وتحترق بهجتهما على نار النهايات.
زينب: «مدري أيش أسوي، إنتي عارفة، ما حب سالم، هو من عالم وأنا من عالم ثاني، أهلي غصبوني أتزوجه».
أميرة: «بس تحبين بناتش صح؟، فكري زين وخلي منش الدلع هذا».
تغادر أميرة بغضب، تاركة زينب وهي تنتحب بصمت. زينب تنظر إلى الصور التي دستها أميرة بين يديها. تنتظم فيها ذكرياتها مع التوأمتين، لقطة مضحكة على بحر المغسيل، إذ تظهر نافورة مائية تنبعث من جوف الأرض وتخترق ملابسهن الوردية وهن في الخامسة من العمر.
لقطة أخرى لهن في مدرسة الجوهرة الخاصة بملابس التخرج؛ رحاب تحمل بالونة مطبوع عليها خنجر وسيفان، بينما رباب تحمل علما زاهي اللون، متنوع الدلالات: الأحمر يرمز للحروب والمعارك التي خاضها الشعب عبر التاريخ لطرد الغزو الأجنبي من البلد، والأخضر يدل على الخصب والزراعة، بينما الأبيض يشير إلى السلام والازدهار.
صورة ثالثة لابنتيها على الدرّاجات في فندق جويرة وهما في التاسعة مع والدهما، صورة أخرى لمنظر على جبل أتين وفي أيديهما لحم مشاكيك، صورة في عرس بنت خالتها بفستانيهما الذهبيين. وأخرى في عرس أختها وهما في الثانية عشرة وتلبسان دارة الحروز، وعليها سبايب تشكلت بقطع مربعة تشبه حزام طولي يتدلى على طول الشعر. ومربوط على شعريهما من المقدمة عصابة ذهبية لرحاب وفضية لرباب، بينما تتقلدان المرتعشة في عنقيهما، ورُسمت على وجهيهما مكياج ظفاري قديم على شكل خطوط بالرنج الأخضر أو المصبون، إذ توضع نقطة بداية على الأنف وتسمى عكف، وآخر يمتد من الأنف إلى الأذن ويسمى ثيوم، وثمة خط على الذقن يسمى رثمة. بينما الحواجب محددة بوضوح بعرام أسود اللون.
كان عرسا خياليا، وبدت ابنتاها الأجمل في ملابسهما وزُهبتيهما التقليدية القديمة، أصبحتا عروستين، يالله، كم كبرتا دون أن تشعر! آمالها وأمنياتها لم تثمر، ولكن ابنتاها أصبحتا أشجارا بفروع وارفة مثلها، عليها أن تبقى معهما لتقلم حياتهما وتشذب فروعهما وتروي جذورهما، لا يمكنها أن تنزع بذرتهما من تربتها، ولكن يمكن لتربتها أن تعيش دون ارتواء. تناولت هاتفها وأرسلت رسالة: «أرجو أن تغادر، لدي عائلة أهتم بها».
تناولت صورة أخيرة تظهر فيها التوأمان تضحكان مع والدهما، وهي على الفراش الأبيض نائمة بعمق، وسالم يطبع قبلة على جبينها.