متى تثمرين بوحاً يمهد لي الدروب بالحكايا
تلك الحكايا التي كانت..
الحكايا الآفلة…
تضجّين بالصمت
فتؤوب إلى مقلتيك واحاتُ الخضرة
أعشاشُ الطيور
وملاذات الدوريّ النزق
أوبرا اليمامات ساعة الضحى
موائد الجراد والجرذان
معارك الغربان
وكهوف البوم كآخر المطافات ليلاً
في مواسم الهجرة الملأى بالحتوف
كنتِ فنارَ العابرين
ومسرحاً نابضا بالغناء ..
في صباحات المواسم الملونة بالأخضر والأصفر والأحمر
” لقطوا .. لقطوا لقّاطهْ .. بنعشيكم سقّاطهْ”
جوقةٌ من الطيوف العابرة تغني بين أفيائك
وأيادٍ مغبرة تجمع عطاياك في زنابيل من خصف أديمك.
تنكفئين على الدبيب دبيبهم ..الدبيب المنغمس وشماً غجريا في إهابك .
مازال صمتك رِتاجاً على باب قلبي
قلبي الذي ينوء بالذكريات القصيّة..
مازال صمتُكِ رتاجاً على بوّابة الصباحات..الصباحات التي غطاها غبش الشتاء فعبرت بأسمال الضباب ؛ تنضح من بهاء السواقي فتشرقُ الأبجدياتُ داخلي ..
نحن أدرى وقد سألنا بنجدٍ
أطويل طريقنا أم يطولُ
وكثير من السؤال اشتياق
وكثير من رده تعليل
أستقريء الطريقَ الطويل والذي طال .. الطريقَ الذي غادره العابرون .. فانزوى مغبراً معفراً على قارعته..
أستجليه بعينيّ ذاكرتي التي تصغر في حضرتك
كان هناك ثمةَ ” شريعة”
ربما وقفت بها بعض النوق في تلك الصباحات البعيدة .. تمد أعناقها العالية للماء ماء الشريعة..
ترمش بأهدابها الطويلة ممتنةً للصفاء الزلال ، ولظلالك التي تؤويها فتخمد فحيح الصيوف بأشفارها التي تهادن الدبيان ودبابير الماء..
ممتنةً لأعذاقك التي كفتها مسغبةَ ذاك النهار المفرط في حيويته ..
كنت حارسة الماء.. تهبينه للأنعام والسابلة
وعيناك السارحتان على المدى
شرفتا الأساطير الليلية القاتمة
أساطير السحرة وضباعهم الهائمة في العتمة البهماء الدكناء…
أساطير ” المغايبة ” وكم رأوهم وكم سمعوا نأماتهم ونداءاتهم المبهمة، يشربون بقايا الهوام ويختفون كأثر بعد عين ..
كانت رائحة النوق تسبقها ، وتظل متشبثة بالأفق عالقة بين خوص النخيل والغافات ،ترى بعر النوق في جنبات الطريق وعرصاته الأثر الذي يقصّه القفّار إذا شبّت النوق عن الطوق وخالفت مساراتها..
كم كنت الأم الرؤوم ..
يا الجذعك موطني
وغدرانك زرقتي
مداكِ سماواتي
حفيفك ..رحلاتي التي لا أعود منها
حفيفك… أناشيد الروح وشجنها
تلك الأناشيد الباردة الهادرة العالية المسهبة في تلاطمها كالنواعير ..
{ وهزي إليك بجذع النخلة }
قابلة الأنبياء.. أنتِ
يُقطع سرُّ الحياة الأول ؛ ليُغرسَ في رحمك
يتبرعم الثبات في أحشائك ، ويصّعّدُ في السماء..
{ والنخلُ باسقاتٌ}
أميرةُ السمواتِ ..أنتِ
محراثُ نظراتي إلى بيادر الذاكرة المهجورة..
الذاكرة التي راكمتها المشارق والمغارب فغدت بيداً دونها بيدُ..
أُسوّرُ أيامي بمرآكِ
وأحرِّزُ روحي بقلادة ” خلال” نضِر
أنفثُ من زخم طينك على روحي لتستقر وتقّر …
وطنُ الموجعين
سلالةُ الجدّات
رائحةُ أردان أثوابهن المخمرة بدخان مواقد الخبز،
إني لأجدُ فيكِ ريحَ حزني الذي قدّهُ صهدُ الغياب
أمام ناظريكِ المبيضين من لفح الوجد ، ولا قميصَ ليرتدّ ثباتي إليّ..
لأظلّ هكذا .. سراجاً وذؤابةً حرّى وحيرى أمامَ ما تسربينه من وسنٍ قَمريّ
نافورة الضياء .. أنتِ
أنبشُ بين عراجينك عن أهدابِ ليالٍ كانت تنعَسُ بعد الغروب
موغلةً في التناسخ
متواطئةً مع العتمةِ وأساطير صمتك
وقاصدي نوالك غير المرئيين
أنصتُ بفزع إلى نوباتِ جنونك الراقص
الذاهب في السماء
حيث مدارات التيه راعفة بالأخضر
تخربشين الزرقة بفرشاة خضرتك
أسوّر أيامي بمرآكِ
نتنفس ذات الهواء
يملؤ رئتينا ذاتُ النشيج المهزوم بالفقد..
” ومَن سِرّهُ في جفنه كيف يكتم !؟”
حين كنتِ…وحيثما كنتِ
مُحيّاكِ أيقونةُ الغضارة ولبابُ القلوبُ
” ومَن لُبّهُ مع غيره كيف حالهُ؟!
وكيف هو حالنا في ظل غيابك..!؟
طينك منازلُ القلوب الباحثة عن منازلها
انثيالاتُ الوجد في قلب متبول
تسابيحُ السُّرى
وهجيعُ المدلجين بنياط القلوب .
في سرادقات قلبي تنبتُ أطيافُكِ
فتظللني الغوادي .. وأشربُ المطر
وفي واحاتِ الروح ..ثمةَ حزنٍ غافٍ
يتسلقُ جذعَكِ.. ليصلَ إلى بذرة الخلود
ونواةِ البدءِ الذي كنتِهِ.