ينهال عليك كالمطر، ولا تستطيع الإفلات من انحناءاته، فالصور متلاحقة، والأفكار مبتكرة، والنسيج وحده من يضع يدك على الصفحة التالية، لتكمل القراءة، ويكتمل المجاز في رأسك، وينمو المعنى بداخلك. مجموعة “سأخلع طعم الريح” للشاعر: علي مكي الشيخ، والصادرة عن دار دراية للنشر والتوزيع، تقدم وجبة رمزية بامتياز، معتمدة على مفردتي الانزياح والتأويل (ص171: على أي حال):
“وإن غاب من أقصى الكلام انزياحه ففي آخر التأويل رؤياك تعصمك”
الانزياح انتقال وتبدل للدلالة مع بقاء اللفظ، والتأويل اشتغال فكري، واكتشاف مجاهل قصية، بعيدة كل البعد، عن عالم المباشرة، وهنا تلتقي المفردتان، فالانزياح يستدعي التأويل، والتأويل ينتج المعنى الجديد للفظ، فيتشكل البيت الشعري حينئذ، وباكتمال القصيدة، يترسخ حضور المعنى المخترَع (ص177: قليلاً من النسيان):
“قليلاً .. من النسيان فوق شفاهنا سيمنحنا التأويل رغوة فهمه”
لا يخفي الشاعر أوراقه، بل ينثرها داخل الديوان، ولا يضع ترتيبا محددا لمقاربتها، وإنما يترك للقارئ هذه المهمة، معتمدا على ذائقته، وما يحمله من “مجاز“، هذا المجاز الذي يعيد تشكيل الدلالة، ويفجر المعنى الجديد، ومن هنا ندرك سرها، وكثرة ورودها بين الأبيات والعناوين، فلا انزياح وتأويل إلا بالمجاز.
من عناوين المجموعة: (سهر يزرره المجاز – على سهر المجاز – بهو المجاز – أسئلة المجاز)، أما الأبيات التي اعتمدت على “المجاز” في تركيبها فكثيرة، منها (ص21: على سهر المجاز):
“على سهر المجاز حكى وحين رشفته .. التفتا”
ومنها (ص46: إصغاء):
“ما زلت غصنا في حقول قصيدتي ينمو المجاز كما يشاء ويحرث“
الهالة التي يصنعها الشاعر، وهو يخاتل اللغة، ليوقد شمعة القصيدة، تضيء سماء العتمة، وتصغي لصدى النغمات القادمة من بعيد، فالمجاز في حاجة للضوء، والشمعة وظيفتها تمكين القارئ من العبور إليه، فالمجاز رهين بعين القارئ، ومعتمد عليه في الظهور، ولذا كثرت ألفاظ السهر والمساء والصمت، إذ هي ملازمات التأمل والاكتشاف.
رحلة يقوم بها الشاعر والقارئ معا، الشاعر أولا؛ حيث ينثر مجازاته، ويختارها في المساءات، و”يسهر جرَّاءها” إلى أن تكتمل داخل القصيدة، والقارئ وهو يستنير بالضوء، ليتمكن من رؤية الانزياحات الدلالية، التي عمل الشاعر على بثها وتفريقها داخل الديوان (ص11: سفر يمارس إيقاعه):
“والليل لص الأمنيات
وسارق .. شفة الصبايا ..
وهي ترقص ذاكرة”
ويقول في مطلع قصيدة “ترقُّب” (ص13):
“خلف المساء وضحكة المنفى ضيعت عن إغرائي الرّشفا”
العملية لا تكتمل إلا بمعرفة العنوان، فـ”سأخلع طعم الريح” ليست عبارة كاشفة بشكل مباشر، إنما هي في حاجة إلى تأويل انزياحاتها، فعن أي (ريح) يتحدث الشاعر؟ وعن أي (طعم) يتواجد في فمه؟ الديوان يجيب، ويشرح المخفي، فالـ(ريح) تشير إلى الكلمات التي ينطقها، والـ(طعم) يشير إلى اللذة التي يجدها داخله بنطقها، فلماذا والحال هكذا يود خلعها؟
لا يود خلع الكلمات وإلغائها، فما حدث قد حدث، والحكاية هنا بين عاشق، وعاشقة، يتستران بالظلمة، ويتلذذان بالمناجاة، ولا يرغبان البوح بأسرارهما إلى أحد من البشر، ولذا يعمد الشاعر إلى استخدام مفردة “سأخلع” التي تشير إلى القوة والإجبار في محاولة منع الكلمات من الظهور والانسراب إلى الخارج (52: أنحت الصمت):
“أنحت الصمت
كي أرى
ضحكة اللحن في القصب ..
أخلع
الصوت من فمي
وأغني بلا سبب”
يضع الصمت في مرتبة عليا، ويستهلُّ الديوان بتمجيده عبر العنوان، وإن لم يذكره صراحة، فاللعبة التي يمارسها تعتمد الانزياح والتأويل، أما الكشف المباشر والبوح، فليسا في قاموسه، وبصنيعه هذا يؤكد منهجية قراءة الديوان ومقاربة قصائده، عبر هاتين المفردتين، فالصمت هو الذي يصنع المعنى، وليس كما يظن البعض، بأن المعنى تولّده الكلمات (ص33: انكشاف):