الثقافي
الصِّيرة … لابدَّ وأن تحكي فالملاحم تزدان بالتقادم
—————————
حمود بن سالم السيابي
—————————
ككل أبناء قريات كان الطفل سعيد بن محمد السيابي يفتح عينيه كل صباح على هذا الشاخص التاريخي في مدينته حيث يتسابق الشروق وعناد “الصيرة” ، وكثيرا ما يشرق العناد قبل الشروق.
وككل ندامى البحر وجيرانه يتابع سعيد السيابي بلدته وهي تنام إلا “الصيرة” المكابرة التي تزيد من عنادها لتستقبل الظلام بحدقات واسعة يأوي إليها الموج والسفن والنوارس وهي على صخرتها تتابع التقيد بسنن البحر والالتزام بمسارات الإبحار.
وظلتْ الأسئلة تلحُّ على طفولة سعيد السيابي : لماذ تبحر كل السفن إلا الصيرة التي ألقت مرساتها في أعماق الأعماق لتضع توقيعها على التاريخ ؟
ولماذا ترتفع كل الأشرعة إلا أشرعة الصيرة التي لا تنشر بياضها وكأنها تكسر اشتهاءات السفن للريح؟.
وكم من عرسان جاءوا لاستمطار البركة كما يفعل الأوروبيون الذين يوثقون الفرح بصورة في ساحات الكاتدرائيات؟.
وكم من عائلات خرجت قديما بصبيانها للختان هنا حيث الصيرة تعمِّد الرجولة؟
وكم من عيون رتعت في أساطيرها قبل النوم ؟.
وكم من جفون عانقت تغير لون النهار على السارية ومروق المراقبة وحصى الحيطان ؟.
أسئلة كبرتْ مع الاستاذ الدكتور سعيد بن محمد السيابي وكبرَ معها عناد الأجوبة ليعرف لاحقا من أفواه القرياتيين أن شيخ المجاهدين عمر المختار القادم من بادية برقة إلى أعراس الشهادة هو النسخة الحديثة لنسخة سبقته بقرون في هذه البلدة المجاهدة يوم قايظ شيخها برقبته البرتغاليين لأجل أن ينقذ قريات وليفكّ الأسرى من أيدي الأعداء ، ليتقدم بعدها لمنصة الإعدام يطاول السماء ، شامخا بأكاليل من شجر سفوح الجبال في وادي ضيقة والمزارع وحيل الغاف ووادي مجلاص.
ويوم حملتْ الاقدار عاشق “الصيرة” إلى البرتغال حيث ترك الأمويون وشمهم على صيرة أخرى في شبه الجزيرة الايبيرية أسموها لشبونة عادت إلى الدكتور سعيد السيابي “الصيرة” و”المجز” الذي تتركه العجائز تحت مخدات الصغار وفضول الأسئلة.
وفي “توردوتومبو” حيث يحتفظ البرتغاليون بجنون الغزاة عكف بطل الصيرة على تصفُّح الزمن المبلل الذي يضطجع في ملفات الأرشيف الوطني.
وبشوق طفل يسافر من الوطن فيرى علم بلاده بين الأعلام فيقترب منه وكأنه يراه لأول مرة ، ويطالع صورة سلطانه بين الزعماء فيعيد قراءة فخامة الاسم، ويتلمظ الجصَّ في صور لحصون بلاده بين الحصون التي تشد إليها الرحال ، كانت الفرحة تغمره وهو يقرأ اسم عمان في الأرشيف الوطني فيتزلزل.
ويتمادى الغزاة في السخاء فيشم رائحة قريات في الملفات والملح المتكلس على جدران “الصيرة” وزواحف البحر والأصداف والمحار على الأساسات فيجنح به الفرح نحو السماوات السبع.
كانت الوثيقة الأولى التي قرأها عبارة عن إهداء البرتغال قبعتين لشيخ قريات ثم تتابعت الوثائق الواحدة بعد الأخرى ومعها قريات والصيرة واليعاربة والسفن والشهداء الذين يتوسدون زعفران المعلاة ، والرجال الذين ملأوا الجغرافيا والتاريخ من بحر عمان إلى شطآن الأطلسي.
وفي المسافة بين مطار “ليسبوا” ومطار مسقط كانت الصيرة هي النقطة الأهم في خارطة المسار.
وكان صمتها الذي يجب أن يكسر هو قراره لمشروع “الصيرة تحكي”.
وعبر ١٩٥ صفحة فتح الاستاذ الدكتور سعيد بن محمد السيابي جهاز التسجيل للصيرة لتبوح بحكايتها منذ عام ١٥٠٦ وإلى أن تولَّتْ المبدعة أحلام الرحبي وضع اللمسات الفنية على الحكاية عام ٢٠٢٠ للميلاد ، مرورا بالاستقبال البارد لسائق التاكسي في مطار “ليسبوا” لبطل “الصيرة” وحتى دفء آخر حضن ل”ليزا” وهي تودع “أبراهام” عند آخر نقطة أمنية تسمح بها سلطات مطار “ليسبوا”.
و”الصيرة تحكي” .. ليست رواية فحسب بل وثيقة تاريخية ونضالية لجزء من عمان كانت بين فصوله قريات الرمح والبيرق والعمائم والهامات.
و”لصيرة تحكي” .. سيرة ذاتية لقريات وللدكتور سعيد السيابي معاً ، فحيثما مشينا في الصفحات كانت قريات ببحرها وبرها ومساجدها وأسواقها وحصونها ووعولها وسدودها وزروعها ومواسمها وميثولوجياتها.
وحيثما رتعنا في الدروب كان بطل “الصيرة تحكي” هناك بطوله الفارع وضحكته المجلجلة “يمسرح” الحكايات في وادي مجلاص والمسفاة ودغمر وحيل الغاف لتكون الأقرب إلينا ، ونكون الأطراف في الحكاية الرئيسة فنعبر المشاهد والفصول.
ولقد سبقَ لي وزرتُ لشبونة في تسعينيات القرن الماضي فصببتُ جام غصبي على القائد البرتغالي “البوكيرك” في مقال نشرته في كتيبي “نشيج الحبر”.
ويعْبرُ الدكتور سعيد السيابي شبه الجزُيرة الأيبيرية فيقف عند نفس التمثال للبوكيرك ليسجل الحديث الطويل للصيرة من أرشيف “توردوتومبو” فيصب جام غضبه على البوكيرك والبرتغال باستثناء “ليزا”.
وشتان بين وجعي كزائر للبرتغال لا أعرف من الاستعمار البرتغالي سوى البوكيرك لأستنطقه في مقال عابر عن المقاومة العمانية التى أعادته ذليلا منكسرا ليرقد في الرخام البارد لكاتدرائية البلدة ، وبين الدكتور سعيد السيابي المسكون برائحة الشهداء في المعلاة حيث أجداده يؤذنون لصلاة الفجر كل يوم ، وحيث أحفادهم ينتظرونهم لقهوة الصباح في ظلال حصن قريات وبجوار قوارب الصيد.
إن “الصيرة تحكي” ستستمر تحكي عبر السنين ، فملاحم التاريخ تزدان بالتقادم.
—————————
مسقط في ١٢ أكتوبر ٢٠٢٠م.
الصُّور منقولة من صفحات الأصدقاء.