مقالات
فرح يهطل من السماء
حسن المطروشي
تتعلق الأفئدة في أعالي السماء، وتعانق الأرواح صفحات المطلق، لهفا وشوقا في انتظار القادم الأنقى .. في انتظار مَقْدَمِ الركب النوراني الأبهى.. مقدم شهر رمضان ببركاته وفيوضه وهباته العظيمة.
إننا حين نخرج إلى سقوف البيوت والتلال، ونصعد أعالي الأشجار وقمم الجبال، ونستخدم كل وسائلنا المتاحة لمشاهدة ذلك الخيط الذهبي الذي يطل من الأفق بُعَيْد الغروب، فإننا لا نبحث عن الهلال إيذانا بدخول شهر جديد فقط .. إنها اللهفة بإعلان فرح غامر يهطل على الأرواح من شباك السماء.
إنه الهلال الأكثر سطوعا والأعمق لمعانا. لبريقه سحر آسر يتسلل إلى شغاف القلوب ويضيء كوامن الأرواح ويشعل دواخل النفوس بتجلياته البديعة.
هذه الإطلالة نقطة فاصلة في مسار حياتنا وهدير زحامها الخانق. هنا نتوقف قليلا لنتلفت إلى ما هو جوهري وعميق، إلى ما هو أكثر صفاء وجمالا في دواخلنا. نعيد توجيه بوصلة الأشياء، وترتيب خططنا وخطواتنا. في هذه اللحظة يتضاءل الكثير من الأشياء التي نحسبها كبيرة، ويصغر الكثير مما كنا نعده عظائم.
مع بزوغ هذا الهلال تقفز إلى المخيلة روائح الطفولة، وممرات الحارة، والمساجد العتيقة، وأصوات المقرئين البسطاء الذين كانوا مصابيح الليالي. تلك التلاوات التي كنا نسمعها من معلم القرآن أو من إمام الصلاة أو من كبار السن والأطفال في البيوت المتهالكة. كما تعود إلى الخاطر أيام جمعتنا على الخير والمحبة.
نرافق هذا الهلال .. ليلة بليلة، ونتابعه هلالا وليدا وضّاءً، فقمرا ساطعا، فبدرا منيرا، فمُحاقا يتضاءل كل يوم كمن يلوح للرحيل. كل ذلك ونحن نتلمس ساعات النقاء بين زوايا الزمن، ونفتش عن ذواتنا في تفاصيله.