الثقافي
عبور
مريم الحتروشية
(من كتاب نوستالجيا صورية الصادر عن دار لبان)
وأنتَ تعبرُ الوهادَ بين جبال متصدعة، تحملُ إليك الريحُ حمحمةَ خيلهم، ووقع حوافرها على الحصى، يتناهى إلى مسمعك رغاء نوق متهادية على طريق ضيق بين جبلين، تركل بين أرجلها أشعة الشمس، قاصدةً المدينةَ المكتنفةَ البحرَ والتي سوف تستقبلهم كبدو رحل استطابوا لألاء البحر الممتد عوضًا عن سراب الصحراء، وتماوج كثبانها. استوطنوا المنحدرات وكانت المرتفعات حمى لهم ولأنعامهم وهاجسُ العودة للمنابت يشدهم بين الفينة والأخرى ..كلما غضبَ البحرُ غضباتَهُ العاتية ..
ثمة بئرٍ عبرها الرعاة ليتزودوا
منها بماء غير آسن ..
حملوا هوادجهم وساروا
يمموا للبحر
تهرول خلفهم كوسٌ* عاصفة
تدفعهم دفعا إلى
غدهم المنتظر
يمموا للبحر
لا مقرَّ ومستقرَ
إلا هو..
يعبقُ ملحُهُ في خياشيم الجمال، فتحرك رؤوسها بارتعاشةٍ في الأفق الممتد .
على مبعدةٍ من هنا تواترَ الحديثُ عن جرفٍ منحدر يحدِّقُ في هوَّةٍ عظيمة يقال بأنها سرداب معتم لنجمٍ انفلت عن مساره فهوى سحيقًا بين تكوينات الجبال، لذلك أطلق عليه الآهلون والعابرون نعتَ
“هوية نجم”*.
تبدو للعيان خيامًا نصبت هنا وهناك تبتلع سدرةً أو غافةٍ في جوفها، وكأن أهلها غادروا المكان. .
على جانبيّ الوادي الذي تحرسه الجبال لا دليلَ حياة لبشر سوى خيمات متناثرة تسكنها الريح .
وحدها الطبيعة تقود زمام الأبدية هنا.
بعد ساعات من الترحال .
تجري أمام عينيك حركة غنمات تتراكض، تفتش في المكان لتلمح وراءها راعية تتوكأ عصا..
يظهر سفحُ جبل على رأسه بقايا برج حراسة مربعة .. تسمع لاحقًّا أنّ المربعة كانت في زمن غابر تمثل مركز دفاع ونقطة تفتيش عسكرية. يطل الجبل على تجاويفَ خيرانٍ صخرية تحولت بفعل الطمر إلى وادٍ عميق يطلق عليه اسم “قرن أبوعباس”، تتساءل في نفسك من أين جاءت التسمية .. يُقال بأنه كان خورًا من الأخوار التي تحتضنها الجبال وكان مرسىً للسفن في عصور سابقة، ويؤكد الطاعنون في السن نقلًا عن أجدادهم بأنهم كانوا يعثرون على هياكلَ وعظام الأسماك العملاقة على منحدرات الجبال وبين فلقات الصخور، وثمة قواقع ومحار بحري في جروف الجبل.
عدا أنهم تسامعوا ممن قبلهم بأنهم عثروا على سلاسلَ ومراسٍ لسفنٍ عظيمة بين الصخور، وفي قيعان الجروف بقايا أحجارٍ كلسية لامعة تُشكل تعرجات على جوانب الجبال..
ترتعد لمجرد التفكير بعمق الجروف التي كانت تملأها المياه حتى أخمصَ أقدام الجبال، الجبال التي انتكس عاليها سافلها بسبب غضب الله وسخطه على أقوام كانوا على مقربة من هنا، أشادوا ما أشادوا وعمروا ما عمروا ولم يتبقَ إلا مقابرهم وقبةً تنسب لابنةِ ملكهم في ذلك الوقت “قبة بيبي مريم” *.. أين ذهبت كل هذه العوالم ؟، كيف لحياة كانت متلاطمةً أنْ تصمتَ فجأة، وتتصحر، وتغدو خرابًا، بل وضربًا من الخرافة والخيال؟!
يالهذه الأبدية التي تتناوب الحيوات بين ظهرانينا.
يتقدمون .. وما يزال البحرُ بعيدًا عنهم .
يبيتون ليلتهم تسامرهم ألسنةُ اللهب وجواهر الجمر الفائقة الحمرة، ونجوم لامعة تفترش السماء كما يفترشون العراء .. النجوم التي تغزل أنواءَهم، بحلولها على سمائهم سعدُهم ويمُنُهم وحسنُ طالعهم، وبغروبها وتقلبها تتقلب بهم الحياة من وادٍ إلى آخر .. تنوخُ إبلهم .. يعلفونها بالنوى وقليل من أعشاب جافة.. ماتزال الطريقُ شاقة ووعرة.. والوصول محتم … ركوة البن تفور بقهوتها تتآكل الأعواد الجافة تحت توقدها ..رُبَّ حياة مكوثٍ واستقرار قرب أفق أزرق…حيث كثبانَ الموجِ أكثرَ حياةً ورحمةً من كثبان الرمل .
كان سفحُ جبلٍ تشقه طريقٌ غدت كشعرةٍ سوداءَ من بعيد.. ترى من السالكين لذلك الخط المتعرج هناك؟ ..اقتربنا أصيلَ اليوم التالي لسفح الجبل ارتقت أعيننا الطريق، ثمةَ نقطة توقف قرب قبر مجصص، وهذا مدعاة للغرابة، ونذور مسفوحة حوله هنا وهناك .. تسأل لاحقًّا لتعلم أنه ضريح لولي صالح، وأن المضطرين يلوذون به تيمنًا ورجاءً، واستسقاءً لحسن الطالع .
لا تجد في نفسك ذلك التوق للتبرك إلّا ببركة الخالق .
تهرول نزولًا من كتف الجبل .. لا نذرَ إلّا ما قطعته على نفسك أمام الصحراء، أن تصل إلى طرفٍ قصيٍ يهبك الانطلاق، وأن تركز راية نصرك على شامخٍ مشرفٍ على زرقتين متماهيتين في الأبد.
ــــــــ
هوية نجم: اسم لمنطقة في نيابة طيوي يُقال بأن نيزكًا هوى من السماء إليها.
قبة بيبي مريم: بناء مربع قديم ينسب للإمبراطورية الفارسية في قلهات .
ضريح يُقال بأنه لولي صالح، والإشارة إلى أبي الأدهم كما تتناقل العامة.