الثقافي
الشاعرة المصرية سلمى فايد: الإنسانُ مسألتي الوحيدة
هي شاعرة تعيش الشعر في كل تفاصيل حياتها، مخلصة له ومؤمنة به إلى أقصى درجات اليقين. الشعر هو رسالتها الإنساينة للحياة والوجود والكائنات والخليقة جمعاء. به ترفع صوتها عاليا لتخاطب العالم، كي توقظه من سباته الأبدي بقوة الفن العميقة. اختارت أن تحمل قنديل القصيدة وتمضي في أدغال هذا العالم المظلم ودهاليزه الموحشة، لتضئ العتمات وتفضح القبح وتكشف هشاشته، وتطرح أسئلتها لفك ألغاز الوجود وأسراره العويصة.
إنها الشاعر المصرية سلمى فايد، التي منحتها بلادها قبل عامين جائزة الدولة التشجيعية، لتصبح أول شاعرة تنال هذه الجائزة، رغم صغر سنها، إلا أن تجربتها الشعرية جعلتها تنافس كبار الشعراء لتنتزع الجائزة باقتدار واستحقاق عن ديوانها الثالث (ذاكرة نبي لم يرسل)، الذي سبقه (كوابيس ما بعد الخطأ) و(عزلة الغريب). وإلى جانب ذلك تكتب سلمى فايد الرواية، وقد صدر لها روايتان هما (ميلاد الأوركيد) و(الرباط الأسود).
وبهذه المناسبة أجرت التكوين معها هذا الحوار الذي يرتكز على قصائد الديوان الفائز.
ـــ تراهنين على الإنسان والقيم الإنسانية حين تصرحين بأن الإنسان مسألتك الوحيدة … هل يمكن أن نعتبر ذلك عودة لزمن الشعر/ الرسالة، أو الغرض الشعري؟ أم أن ثمة رسائل أخرى تودين إيصالها عبر شفرات القصيدة؟
** بل هو توسيع زاوية الرؤية، فبدلًا من العودة إلى فكرة الغرض الشعريّ، أجد أنّ جميع الأغراض الشّعريّة تخرج من الأزمة الإنسانيّة الكُبرى.. الشّاعرُ عادةً ما يجدُ نفسَه مُحاصرًا بالتساؤلات الكبيرة والصغيرة، من أنا ولماذا أنا هنا ومن أين أتيت وإلى أين أسير.. إلخ. هذه التساؤلات تُشكّل أزمة الإنسان ومأساة اغترابه.. أمام هذه الأزمة والهمّ الكبير رأيت أنّ الكتابة عندي لن تكون إلّا من أجل الإنسان في كلّ مكان وفي كلّ وقت، بلا انحياز لنوع أو فصيل أو اعتقاد فقُلت “قل هو الإنسان مسألتي الوحيدة..”
ـــ في قصيدتك ثمة رثاء لمعنى الصداقة التي تبدو غائبة في هذا الزمن “فلا صحاب ولا رفاق” … هل يمكن القول أن القصيدة تمثل لك ملجأ في هذا الخواء والخراب الذي يطغى على الحياة؟
** اغتراب الشّاعر عن زمانه ومكانه أزمة يعيشها كلّ شاعر.. فالشّاعر إنسان تستمرّ حياته لسبب واحد فقط هو أمله الدائم في قدرته على الوصول بالإنسانيّة إلى الصّورة المُثلى للحقّ والخير والجمال.. ربما ترى في النصّ الذي تُشير إليه رثاء لمعنى الصداقة، قاريء آخر ربما يجد “الصحاب والرفاق” هم الوطن والأهل، وآخر ربما يجدها إشارة إلى “الإنسان” عمومًا.. فهي في النهاية أزمة الاغتراب عن المكان والزمان بما فيهما من أحداث وأشخاص..
ـــ نراك أحيانا تُشَبِّهين العمر بالعشبة التي تنبت من جرح مجهول في القصيدة، متسائلة في حيرة عمياء، من أنا وإلى أين يأخذني الرحيل … ترى متى تهدأ هذه الأسئلة لدى الإنسان ويطمئن من صخب هذه الوساوس القاسية؟
** ربما يهدأ الإنسان لوقت ما ثمّ يعود ليواجه التساؤلات المرهقة ذاتها مرّة أخرى.. لكنّ الشّاعر لا يهدأ ولا يطمئنّ لإجابةٍ أبدًا. القلق والبحث عن الحقيقة هو المُحرّك الرئيس للذات الشّاعرة.. فالشاعر الإنسان الذي يعايش كلّ هذا الظلم والجهل والوحشيّة في العالم من حوله لا يُمكنُ أن يستريح لمُبرّر أو فكرة ثابتة..
ـــ في صورة غرائبية طافحة بالجنون ترصدين ظلال الميتين تمر مثل هبوب الريح، وتصرخين بأنه لم يعد إلا الخروج عن الطريق أو الجنون .. هل هي دعوة المنتحر للتمرد على يأسه والخروج عن قتامة الواقع المهيمن؟
** هي دعوة للخروج عن جميع الأُطُر والمفاهيم.. دعوة للتحرّر من ميراث الخضوع والاطمئنان للثابت.. فالشاعر هنا يقرأ المستقبل في أحداث الماضي وحيوات الراحلين ويُحذّر ممّا سيأتي، فإمّا أن يخرج الناس من حالة الاطمئنان والصمت أو أن يكون الجنون هو مصير الشاعر ومن مثله من القلِقين الطامحين للانتصار من أجل الجمال..
ـــ تتسع عيون قصيدتك فتصبحين غيرك، ربما طفلا يطالع صورة هذا الكون ببراءة متناهية، هكذا حتى دون أحلام أو نوايا … هل يكون الشعر هنا مخلِّصا ومطهرا للنفس من شرور هذا العالم؟
** الشعر بلا أيّ شكٍ هو المُطهّر والمخلّص.. والقصيدة هي الغفوة التي تتنزّل فيها النبوءة والبوابة التي نعبر من خلالها إلى أرضٍ أُخرى نُشاهد مِنها عالمَنا بصورةٍ أكثر صدقًا وأكثر قربًا للحقيقة..
ـــ في لحظة انشطار عظيم تجابهين العالم بثقل النبوءة وأنه لم يكن خطأك العثور على طريق لم يسر فيها سواك .. كيف تصفين هذه اللحظة لتي تجعل الكائن يطلق هذه الصرخة في وجه العالم؟
** وسط هذا العالم الذي لا يتورّع عن رمي الاتهامات وعن محاكمة المظلوم وتكريم الظالم، يجد الشاعر نفسه مُطالبًا بتحديد موقفه، إما بأن يقبل أن يقف مُدافِعًا عن نفسه أو أن يثور على كلّ الأنماط وأن يرفض الواقع المظلم. تتجسّد مأساة الشّاعر في أن يرى نفسه مُقدّرًا له أن يحمل النبوءة لعالمٍ يرفضه ويُعاديه وهو لا يزال بالرغم من ذلك يسعى للوصول بالإنسان إلى صورته المُثلى..
ـــ في هذا الزمن العربي المأزوم ليس مستغربا أن تتساءل شاعرة لماذا ترى في كل نافذة قنبلة، وكأن الرعب كائن يطل برأسه القبيح من خلف النوافذ الموصدة على أسرارها المخيفة … ما هي أسباب كل هذا الخوف والشك تجاه الكون المحيط؟
** في هذا الزمن الذي تُشيرُ إليه، لا يشعرُ أحد فيه بالأمان.. الإنسان فينا جميعًا لا يستطيع أن يترك ظهره عاريًا لأخيه، فالخناجر مُصوّبة ومخفيّة وراء كلّ الظهور.. ربما يجد البعض في هذا كثيرًا من المغالاة، ولكنّه الواقع الذي نعيشه كلّ لحظة، ولا شيء هنا يدعو للاستغراب فالمعطيات دائمًا تؤدّي إلى النتائج.. العالم الذي ظلّ يُورّث الخرافة ويصنع الجيوش دفاعًا عنها، فيقتل الأخ أخاه دفاعًا عن وهم يُصدّقه هو ومن يُشبهونه، لا بدّ وأن يُنتج ذاتًا تُعاني الاغتراب وتشكو عدم الأمان والشعور الدائم باللا جدوى والوحدة..
ـــ سنختم هذا الحوار عند قولك “سأنام في السطر الأخير من الحكاية”… ونتساءل: هل يملك الشاعر أن يحدد متى يختتم الحكاية ليترجل وينام؟
** لا يُمكنُ للشاعر أن يحدّدَ متى ستنتهي نبوءته.. فنهاية الشاعر هي انعدام وجوده.. لكنّه يعي تمامًا أنّ القصيدة هي بدايته وهي نهايته، بها تبدأ النبوءة وفيها تنتهي..
ملاحظة: الحوار كاملا منشور في عدد شهر سبتمبر 2017م