كان “جوان” لبقًا عند استقباله لنا في مطار لشبونة رغم تأخر الطائرة البرتغالية التي أقلتنا من برشلونة ظهر ذلك اليوم. “مرحبا بكم في البرتغال، يبدو أن الطقس غير مثالي هذا اليوم فاحتمالية سقوط الأمطار هذا المساء واردة” قال جوان وهو يتجه بمركبته خارج المطار في الوقت الذي كان يتفحص فيه السماء وحركة السحب.
أكد لنا أن موقع الفندق الذي ستكون إقامتنا به مميز؛ فهو في مركز المدينة ويطل جزئيًا على الميدان التجاري ويجاور الحي القديم في إشارة منه إلى حي” ألفاما” الذي قرأت عنه قبل مجيئي إلى لشبونة.
فندق لرجل أعمال من أصول هندية تستقبلك فيه شقراء برتغالية، ويرافقك موظف موزمبيقي بسحنة أوربية، قبل أن تجد هذه الجنسيات الثلاث هي ما تحدد سمات الموظفين العاملين في هذا الفندق.
الاستعمار البرتغالي تشبث بمدينة” غوا” شرق جنوب الهند لأكثر من ٤٥٠ سنة، بل كان الديكتاتور البرتغالي “سالازار” متمسكًا بها قبل أن تفرط عنه بإرادة قوية من الهنود قبل ٦٠ سنة. موزمبيق هي الأخرى وقعت تحت نير الاستعمار البرتغالي لأكثر من ٤٠٠ عام لتنشط قوى التحرر متأثرة بانتصارات “جيفارا” ورفاقه في كوبا وتنجح في طرد المستعمر.
كنت استشعر ما قاله جوان عن الطقس؛ فقد بدأت الأمطار الخفيفة بالتساقط في الوقت الذي قررت فيه الخروج من الفندق مساءً قاصدًا ألفاما. لم يكن ذلك الرذاذ عائقًا لمواصلة طريقي متتبعًا عبق الأندلس. “عندما تكون في براسا دي كوميرسيو، اجعل نهر” تاجه” عن يمينك وامض في طريقك وستجد نفسك وسط ألفاما في غضون ٥ دقائق” هذا ما قاله موظف الفندق وهو يرشدني إلى وجهتي.
في الوهلة الأولى ظننت أن جزءًا من لشبونة قد نسخه البرتغاليون من “الحمرية” لكثرة الهنود والبنغلاديشيين في المحال التجارية والمطاعم، مشهد جعلني أقف بأحد المقاهي وأتجاذب أطراف الحديث مع أحد الأخوة من بنغلاديش. ذكر لي أن هناك عدد كبير من شبه القارة الهندية يعملون في لشبونة ويتواجدون بشكل كثيف بالقرب من حي “مارتيم مونيز” في الجهة الأخرى من واجهة المدينة التي كنا بها.
يقال إن اسم (ألفاما) أصله عربي ويعني “الحمه” وهي الماء الحار، لم أجد تأصيلا دقيقا للاسم في الحقيقة. بيد أن الأندلس – بلا شك- تجسدت أمامي بملامحها وتاريخها ورائحتها وكيانها. وكأن أربعة قرون ونيف من الحضارة الإسلامية في الأندلس لا تزال ماثلة ولم تؤثر عليها جهود الفرنجة، ولا حتى زلزال لشبونة الذي أصبحت المدينة على غير ما كانت عليه قبل ١٧٥٥م.
هكذا إذًا صمدت ألفاما لتحكي للأجيال عن وجود عربي وحقبة مهمة من تاريخ شبه جزيرة إيبيريا. وقفت على مطل يكشف حي ألفاما من عل، من هناك تبدو الرؤية كاشفة للجزء السفلي من الحي حيث استوطن الفقراء والصيادون. أخبرني المرشد السياحي في يوم لاحق أن بعض سكان الحي لا يزال يمارس تقاليد قديمة مثل الجلوس قبالة النهر والاستحمام خارج المنازل؛ بل حافظ الكثير منهم على المباني بنفس هيئتها ولم تهب عليها رياح التغيير في جزء لشبونة الحديث.
جامع لشبونة الذي كان يمثل الجانب الديني والعلمي في لشبونة وغرب الأندلس هو الآخر لا يزال محافظًا على بنائه الجميل؛ لكنه تحول إلى كنيسة بعد غروب شمس آخر أيام الأندلس في لشبونة. وتحولت المحال في الحي من حوانيت تبيع الطعام ومكتبات ولوازم الخيول إلى حانات للخمور وقاعات للرقص على أنغام “الفادو” ومطاعم السردين وأطباق “الباقالاو” ، ومُدّت السكك على طرقها الحجرية وأزقتها المتعرجة ليمشي عليها ترام ٢٨ بتؤدة محافظًا على كيان يتنفس عبق الأندلس.
استحال نهر تاجه إلى لون برتقالي وهو يشاهد اختفاء قرص الشمس لتتقمص السماء لون السواد وتبرز خلفي قلعة مهيبة في حي ألفاما مع أنوار المساء. “قلعة العرب” كذلك شاهدة على عظمة الحضارة الإسلامية في لشبونة، قبل أن يتغير مسماها إلى قلعة “سان جورج”.
يقال إن العرب جلبوا معهم الحضارة والنخيل، وها هي الحضارة باقية مع نخيل باسقات تعطي لشبونة شكلا فريدًا. أدرت ظهري للقلعة وتمعنت في شكل المدينة الذي أصبح مغايرًا بعد مغيب الشمس وانحسار الرذاذ، ذلك الهدوء الذي يجعلك تسرح في خيالات بعيدة تستحضر سجلا إرشيفيًا لتاريخ الأندلس.
مع حلول الظلام قررت العودة إلى الميدان التجاري أتتبع عربات الترام التي تنزل ببطء شاقة طريقها للجزء الآخر من لشبونة. أنا الذي أتحسس الطريق مشيًا على حجارة مشى عليها الأسلاف الذين عمروا هذه البلاد وأتنفس رائحة الأندلس في هواء لشبونة.