يا الخارج من جمْر الخنادق لتحفر بحَرْبَة “الكلاشنكوف” حقل ياسمين في ظلَّة الوقت بين مناوبة ومناوبة.
يا المتوضئ بوهج شمس الظهيرة لتصوغ من لعْلَعَة رصاص “الدُّومْ دُومْ” أغنية تتمايل على لحنها الصبايا في رقصة “المشعير”.
يا الناسك المتبتل في خلوة الليل تتأمَّل وجه السماء يطل من غلالة بيضاء كابتسامة من تحب:
“على جفنك ينام اللّيل
ويشرق من شفاك الصبح
وأنت والتُّقى مبْسَمْ
يعيد الروح لأحداقي”
يا العاشق المبارح للمتاريس ، المهرول لمهاجع العودة تدندن بلحن جبلي تصْفُر به شفتاك فتتبعك الغنيمات البيضاء وأسراب القطا وفراشات الأكمات.
يا المتكئ على جذع شجرة نسيتْ أنها شجرة لكثرة اللسعات الغائرة ل”المنقف” على الجذع النَّخِر ، ولتكرار الاستحلاب الجائر للصمغ الذي شربه الدهر.
يا الكلمة المغموسة في استكانات الشاي القرمزي وقد تدلَّتْ خيوط القمر الفضي لتحرِّك مكعبات السكر حدّ عدم التصديق أن الجالس هو ذاته ذلك المحارب القديم ، ولا البوح رقصات روحه اليافعة التي لا تكبر:
“الصبــح والريــح ولفــح القــيض واحــوالي
والنســمة الــلّي تجــيب ابرادهــا خــفَّتْ
مـالي عـلى الإشـراق حيلة تشـرح التالي
وان بـح صـوتي تـرى الحبـال قد جفَّتْ”
ذاك هو الشاعر الكبير على العايل الكثيري صاحب “ذاكرة الرماد” و”رصاصة الماكاروف” و”غيابات قلم” والكثير الكثير من الروائع التي تناومتْ بين دفاف الكتب أو تلك المخبوءة في الخنادق والمتاريس كتذكار لعاشق ساهد الأنجم يوما هو وبندقيته.
وتبادل المناوبات بشرايين القلب القابض على الزناد:
“صبــاحك يــاوطن جــرحي
تشــظى فــيك وتناثــرْ
شــروقك يســتفز صبــحي
ويتحــول شــجن داثــرْ
تمــادى الريــح في لفــحي
بــدربي شــوك متناثــرْ
أغــار علــيك من لمــحي
وعيــني حظهــا عاثــرْ”
وفي جديده المعنون “غيابات قلم” يتجلَّى الحضور الباذخ للقلم ، لا الغياب.
ويصطخب في النصوص الأنين الموجع للأسماع ، لا الدمع الكتوم:
“يكسر سكوتي البوح يامطلع الشمس
والصمت فيني ينطقه وهج الإشراقْ
سافرت انا يا روح على طارئ الأمس
ومسكت باهداب الضياء وجْدْ وآفاقٌ”
ولعله لو توفرت لهذا الشاعر جهة تسوقه بحرفيّة ، أو منصّة ذات شهرة تبنَّتْه ،،لعرف عشاق القريض أنهم أمام قامة على خط الكبار الذين يعرفونهم ، ويعرفون من يتسابق لكلماتهم للغناء لهم.
ولو انزرعتْ أبيات هذا الشاعر في حدائق قصائدهم لتضاحك فيها الربيع.
ولو هطَلتْ روائعه مع المطر لكثُرَ الفقع في بواديهم ، ولطابتْ “طلعة البر”.
لكن الشاعر الكبير علي العايل الكثيري ثار لوحده.
وسلَّم بندقيته لوحده.
واعتصر كروم شعره لوحده.
وكان الزارع والعاصر والمحتسي لوحده:
“تهاوت من مداد الشمس
حمم تأكل ّ من اوراقي
وسقطتْ صورة أشعاري على باقي فتات الحرف
أنـا المنـسي وقـاع المحبـرة قـد جف باحـداقي
تعبت استجدي الأقلام لغة ماتنتمي للصرف”
ومع كل عمل يصدره كان الشاعر الكبير علي العايل الكثيري يتقدم به ألف خطوة.
ويرتقي به ألف سُلَّمة.
ولا غرابة في ذلك فالرجل تفتحتْ عيناه على ريف وضباب ومطر و”نانا” ودواوين شعر ، ووالد يتنكب بندقية وأحلام مفتوحة الشهية على الترحال:
“الشــو ق يدفــع مقلــة اللّيــل أصــحي
وأنـا أخـون النـوم يـا غـافي العـين
أنتــه شــفاتك ترســل ورود صبــحي
وأنــا لهــا البســمة تســافر مــع البــين
لو باحكيلك أنت في الكون ربحي
تـأتي عيـونك وتفتح الصبـح بابين”
لقد كبُرَ وكبرتْ معه ذات المفردات ، لتنحصر مهمته الآن في المجاهدة ببصيص النور في عينه الواحدة فينضد الجواهر ويحيط بها جيد الوطن لتبرق:
“صباح الخير يامرج الخريف الورد
يا اشواق اعماقي
ترى تلك الروابي الخضر
كانت في عيونك تيه
تمد ّ الطرف تشاغل بوح
وتتساما الأماني فيك
إلى آخر شغاف الآفاقِ”
وفي ديوان “غيابات قلم” الصادر مطلع العام ٢٠٢٥ عن “دار لبان” الزاهرة يتألق الكثيري بحضوره الباذخ عبر ٩٩ نصَّاً توزعت على ١٢٤ صفحة بدأها بغربة:
“غربة مكان وبرد
وأنا وشوقي فيك
نستجدي الثلج
يا صوت المكان الساكنة فيني
صباح ٍ من بلاد الثلج
وجمود الحراك
وصوت أضلاعي
أنا مالي غير دفئك قلب يأويني”
وقد أفردَ الملزمة الأخيرة من ديوان “غيابات قلم” عن نزيف غزة ، ليبقى جرح الشعر مفتوحا.