مقالات
خربشات طفل
د. سميرة اليعقوبية
مرحلة الطفولة .. تلك المرحلة البيضاء الحالمة، فوضوية بعض الشيء فضولية إلى حد الخطورة.
حين أهيم في فضاء ذاكرتي لأقتفي آثارها لا أجد سوى ضباب يصر على رفض انتهاك خصوصيتها البريئة. وأصر على البحث ونبشر صناديقها الغامضة، لأصل في نهاية المطاف إلى صوت ضحكاتي مع إخوتي ونحن نلعب.. ونداء والدتي بأحرف إسمي الموسيقي، نعم فلطالما شعرت أن إسمي كنغمة موسيقية جميلة كلما سمعته بصوت أمي بالذات. لكن هذه النغمة تتبدل عندما تعلو نبرتها موجة غضب إثرما قمت به من )شخبطات( على إحدى جدران المنزل بألوان زاهية لا أفهم سبب انتقائي لها، ومن المؤكد لم يفهم أحد في تلك المرحلة عما تعبر؟! خطوط متعرّجة مائلة لا تشبه كائن ما ولا تروي مكنوناتي كوني طفلة، هي فقط رغبات بالتعبير عن أمر ما ولم أجد سوى حائط كبير بل ورقة بيضاء عملاقة هُيأت لي لأخرج أفكاري التي قد تفسر حديثاً دار في مخيلتي مع كائن خرافي ابتكرته حين لم أجد من أبادله الحديث، أو غضب نحو أمر ما.
جميعنا مر بمرحلة الشخبطة تلك واعتقد أنه (بيكاوسو) عصره ولو أنه لم يعرفه أبدا. وأوهمه خياله بأنه عند إحداث تلك الشخبطات إنما هي كتابة لابد أن تجد طريقها للترجمة. فهل من مدرك لها؟ وهل من تفسيرات وراء رموزها؟
إذن نستنتج من ذلك أن تلك الشخبطات وسيلة تكيف مع البيئة المحيطة وطريقة للفت للإنتباه، وأسلوب خاص للاحتجاج على أمر ما ببساطة، وبين كل تلك النتائج إنها بدايات ولادة موهبة تنادي من يتبناها أو……؟! كما حصل مع العديد منا، كبت للموهبة وقمع وقتل متعمد، لن يجرؤ على الظهور مجددا.
إن أثر الجانب الوجداني الإنساني سبب لتواجد المعلم الإنسان والطبيب الإنسان والمهندس الإنسان، والذي يحيط بمعارفه تلك؛ جانبا وجدانيا جميلا يؤثر في تعامله مع الناس بعاطفته دون أن يراهم وكأنهم قوالب جامدة أو أرقاماً. وهذا الجانب يتأثر بعوامل كثيرة تُنميه كالبيئة الطبيعية التي صاغها لنا الله بأجمل صورة، نستمتع بمخلوقاته من حولنا ونتأمل بها فتؤثر بدورها في وجداننا خضرة كانت أم صحراء، جبال شاهقة أم سهول ممتدة. كل عنصر من هذه العناصر لابد له من أن يكون قد غرس فينا إحساسا جميلاً ينعكس بدوره على أسلوب حياتنا.
إن إنتاج العمل الفني لا يعتمد على المنطق الذهني بقدر ما يعتمد على المنطق الوجدان. إن الفرد أثناء عملية الخلق والابتكار يتجرد من رغباته الشخصية ويترك الأمر لحواسه في البحث والتعمق في العناصر بملامسها وألوانها وكل ما يتعلق بها . ومما لا شك فيه أن ممارسة الأطفال للأعمال الفنية تتيح لهم الفرصة في التعبير والتنفيس عن بعض انفعالاتهم وأحاسيسهم وأفكارهم مما يحقق لهم اتزانا نفسيا، وإن لم يعبر الطفل عما يكتمه في نفسه يؤدي به ذلك إلى حالة من القلق وعدم التوازن وتتراكم في نفسه العقد التي تؤثر بدورها على مجرى حياته وسلوكه. هذا بالإضافة إلى الدور المهم الذي يعطيه العمل الفني للطفل، فهو يعزز لديه الثقة بنفسه بالأخص حين يقدم أعمالاً فنية يشيد بها الآخرين والتي تجعله يحس بكيانه كشخص فعال في المجتمع مندمج فيه. والاندماج في العمل الفني يقتل لدى الطفل أوقات الفراغ فهو بهذا النشاط الفني يكتسب خبرة ويوظف مهارته في عمل مفيد. إنه يعطي لنفسه المجال في أن يستفز ملكاته الفكرية التي تخرج القدرات الإبداعية لديه وتخلق فرص إبداعية، تعزز لديه وبشكل مثمر الصحة النفسية. والرسم أمر يتطلب التعلم والممارسة حتى يصقل.
إذن ما هي العناصرالتي تعمل على تعلم الرسم؟ يمكنني ايجازها بالتالي:
أولا التعلم الاجتماعي:
فعلى سبيل المثال، طفل في السنة الأولى من عمره يراقب تصرفات أخاه الذي يكبره بثلاث سنوات حين يمسك بالقلم ويحركه على سطح أملمس وينتج عن تحريكه تأثيرات مختلفة أثارت إعجابه، وشجعته على التجريب اعتقاداً منه أن الأمر سهل بالنسبة له أيضا، وما أن يمسك هو أيضا بالقلم ليقلد أخاه رغبة منه بعمل تأثيرات مشابهة تثير فضوله، يحدث تأثيرات لا تشبه بتاتا ما قام به أخيه الأكبر والتي تعد رموزاً أكثر وضوحا من العلامات أو بمعنى أصح (الشخبطات( التي نفذها هو وهذا أمر بديهي يعود بالدرجة الأولى إلى عدم اكتمال نموه العضلي الذي حال بينه وبين قدرته على التحكم بالقلم بشكل جيد.
ثانيا الإشباع العاطفي والعقلي:
وهو الأمر الذي يجعل مراقبة الطفل ذو العام الأول لاخاه الكبير أمرا تحفيزي لعقله الباطن بأن تحريك الأداة بيده أنتجت رموزاً جميلة أعجبته ونبهته إلى أمر يستطيع هو عمله بكل سهولة ، إذن فهذا المشهد أثار عاطفته التي أعطت إشارتها للعقل بجمال ما نتج من رموز وعلامات، وحفز تفكيره لتعلم ذات الخبرة. ويطلق على هذا الأداء (الرسم الاستكشافي) الذي لا يحتاج إلى أسطح مهيأة لتطبيق أي خربشات.. صدقا فالطفل حين يرغب بترك أية خربشات تسعده فلن ينتظر حصوله على ورقة، فمساحات الحوائط في المنزل كفيلة لإشباع فضوله، والحال ذاته على شواطئ البحر أو المزارع والبوادي كذلك، فالحصول على عصى تفي بالغرض لترك خطوط متعرجة ومنحنية ودوائر غير مكتملة يعتقدون بأنهم بذلك قد رسموا كائنا ما وينتظرون تصفيق من حولهم إعجاباً بالانجاز الذي حققوه.
إن أولى اهتمامات الطفل ترتكز على عناصرمحددة تتمثل في الأم والعائلة والمنزل والقطة. فلا نجد بينها فكرة (الأنا) أي أنه لا يجد من نفسه جانباً مهماً للرسم، وجل تركيزه على العالم الخارجي أكثر.
الشاهد هنا أن الخربشات والرموز والعلامات التي يطبقها الطفل ما هي إلى وسيلته لاستكشاف ما يحيط به ويشبع جانب المتعة لديه وهي سبب تطور فكرة الرسم إلى لعبة يمارسها مع الوقت ليجرب ويستنتج أمور لم يكن يعرفها، فاللعب أمراً يعد سمة إنسانية أساسية على مدار الحياة وليس أمراً مقتصرا على سن الطفولة.
واللعب بالأفكار جسر يأخذنا نحو الإبداع كما هو الحال عند الكتابة أو عزف لحن ما. وعلى سبيل المثال عند تجريب العزف على آلة العود، نضع أصابعنا على كل وتر بغية سماع أصواتها ونكرر تحريكها مرارا حتى نكتشف أن لحنا ما قد بدأ بالظهور، ونكرر اللعبة التي تقودنا إلى أولى خطوات الابداع. فالعازف الشهير (موزارت) بدأ موهبته في عمر الثالثة حين كان يراقب أخته وهي تتدرب على العزف وشجع والده هذه الموهبة وقام بتدريبه لتصل إلى مسامعنا أجمل الألحان التي مازالت محط إعجاب لدى الناس.
جميعها تبدأ بخطوة أكثر جرأة يتعلم من خلالها الفرد أن يضيف ويعدل ويحدث تغييرات ويستخدم أدوات ليجد أن خطواته تتطور مع الممارسة وأن خربشاته تلك تصبح أكثر جرأة وثقة فتنقله إلى عالم رسم الرموز ومن ثم رسم خرائط بيانية وتصاميم ابتكارية لمبنى ضخم أو تصميم مجسم لسيارة حديثة الطراز، نعم فقد تعلم الطفل أن شخبطاته الأولى تبدأ بأول خط يحدثه وإن لم يكن واضح المعالم، بل هو أول خطوة إلى طريق الإبداع.
* دكتوراه في المناهج والتدريس، تخصص فنون تشكيلية
____________________________
المراجع:
_عزت، محمود. (2011) التفكير والتعلم عن طريق الرسم في مرحلة رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية، مجموعة النيل العربية، القاهرة.