الثقافي

الطائر الذي هبط من غابات التاريخ إلى فضاء الغناء الخليجي

حسن المطروشي

بو عْوَيِّضْ يقول
يا اللي سلبتي العقول
راعية الحجول
توعد وتخلف وعدي
سلام يا حمام
يا عود يا ماوردي
من أغنية للفنان الراحل حمد حليس
*****
لطائر الحمام حضوره العميق في الوعي الثقافي العربي، لا سيما لدى الشعراء الذين أسهبوا في سرد ذكرياتهم والبوح عن لواعجهم التي أهاجها تغريد الحمام على الأغصان، فما أعذب قول الهذلي :
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر
وغصنك مياد ففيم تنوحُ؟
أفق لا تنح من غير شيء فإنني
بكيت زمانا والفؤاد صحيحُ

وقول البحتري:
أتراك تسمع للحمام الهتف شجوا يكون كشجوك المستطرف؟

وقد عرف تاريخ الثقافة العربية مؤلفات ومصنفات عديدة كتبت حول الحمام. وللأدباء أقوال ومأثورات لا تحصى في هذا الشأن. يقول الجاحظ: «للحمام من الفضيلة والفخر أن الحمامة قد تباع بخمسمائة دينار، ولم يبلغ ذلك القدر شيئا من الطير غيره». أما القلقشندي في كتابه الموسوعي (صبح الأعشى) فقد نقل عن كتاب (الروض المعطار) أنهم تنافسوا في اقتنائه ولهجوا بذكره وبالغوا في أثمانه حتى بلغ ثمن الطائر الفاره منها سبعمائة دينار. وأضاف أنه كان عندهم دفاتر بأنساب الحمام كأنساب العرب.. نقل القلقشندي عن كتاب (التعريف) لصاحبه المقر بن الشهابي بن فضل الله أن القاضي محيي الدين بن عبدالظاهر صنف كتابا سماه (تمائم الحمائم) كما صنف أبو الحسن بن ملاعب القواس البغدادي كتابا للناصر لدين الله العباسي ضمنه أوصاف الحمائم وكل ما يتعلق به. الأبشيهي هو الاَخر تناول الحمام في مستطرفه، إلى غير ذلك من الكتب والتصانيف التي تؤكد الأهمية التاريخية للحمام في وعي الإنسان العربي وثقافته وأدبه.
وفي معرض الحديث عن الشعر والغناء وما يرمز فيهما الحمام إليه من العاطفة والحنين لفوتنا ذكر كتاب (طوق الحمامة) لابن حزم الأندلسي الذي خصصه للحديث عن العشق والعشاق والمحبين. وقد اعترفَ ابن حزم في كتابه الذي ألفه في صباه بأنه وقع في عشق إحدى جواري القصر وتولع بها قلبه. وكانت جميلة الصوت بديعة الغناء والعزف على آلة العود. وساق ابن حزم جانبا من أخباره مع هذه الجارية الحسناء وعذوبة صوتها، وذكر غناءها للعباس بن الأحنف:
إني طربتُ إلى شمسٍ إذا غربتْ
كانتْ مغاربها جوفَ المقاصيرِ
وفي هذا الشأن قال ابن حزم: (فلعمري لكأنّ المضراب إنما يقع على قلبي، وما نسيتُ ذلك اليوم ولا أنساه إلى يوم مفارقتي الدنيا).

ومما تورده التواريخ أن الأوروبيين أخذوا من العرب في الحروب الصليبية كيفية تربية الحمام الزاجل وتدريبه. وبما أن منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية تعد المنشأ الأساس والحضن الأول للثقافة العربية، فقد ورثت فنون هذه المنطقة الكثير من قيم الثقافة العربية الأصيلة التي غذت العطاء الفني بالمفاهيم الراقية والمبادئ النبيلة. والمتأمل في الغناء التراثي الخليجي يجد عنصر الاهتمام بطائر الحمام واضحا جليا، وقد أخذ ذات الأبعاد الفنية التي طبعت الإبداع الأدبي والشعري لدى العرب قديما، الأمر الذي يعكس هذا الامتداد والارتباط بين الفن الخليجي التراثي على وجه الخصوص وبين أصوله العربية الأولى.
وللحمام عند العرب أسماء عديدة منها (القمري) و(الراعبي) و(الورقاء) وغيرها من الأسماء التي وردت أيضا في الأغنية الخليجية، ولكل منها دلالته.
وفي هذا السياق نورد جملة من الأغنيات التراثية الجميلة التي سكنت وجدان الإنسان الخليجي وتناولت موضوع الحمام. ولعل كل مستمع للفن الخليجي الأصيل يتذكر الأغنية التي يقول مطلعها:
يا ذا الحما اللي لعى بغصون
وش لك على عيني تبكيها؟
ذكرتني غر حسين اللون
يا زين ذيك النفس وراعيها
لا تطري الفرقا على المحزون
ما احب أنا الفرقا وطاريها

هذه الأبيات من الأغنية الجميلة الشجية تذكرنا برقتها وصدق عاطفتها ورهافة إحساسها بأبيات قيس بن الملوح حين قال:
لقد هتفت في جنح ليل حمامة
على فنن تدعو وإني لنائم
فقلت اعتذارا عند ذاك وإنني
لنفسي فيما قد فعلت للائم
أأزعم أني عاشق ذو صبابة
بليلى ولا أبكي وتبكي الحمائم الحمام؟

يترنم الحمام مطلقا أنغامه الشجية في الفضاء. إنه يفعلها ببراءته المطلقة، ولكن القلوب المستهامة ترى في هذا الغناء ما لا يراه غيرها، فهو يذكرها بمعاهد الأحباب ومرابع الصبا، ويجلب ذكريات الشوق التي توقد جوى الوجد لدى المحب، وهذا ما تصوره الأغنية التالية:
يا ساهر الليل مثلي ما تنام
ذكرتني بالأحبة . . يا سلام

وهذا البيت الشجي من الأغنية السابقة يحمل من دلالات الشوق وحر العاطفة الشيء الكثير الذي لا يحتاج إلى تبيان وإيضاح. ومن الأمثلة الشعرية العربية القريبة من هذا المعنى قول عبدالله بن طاهر، وله في ذلك قصة حيث كان في أحد أسفاره فسمع حمامة تنوح فطرب وتشوق وقال: قاتل الله أبا كبير حيث يقول:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر
وغصنك مياد ففيم تنوح

ثم أنشد أبياتا جميلة منها قوله:
وأرقني بالبين نوح حمامة
فنحت وذو الشجو الغريب ينوح
على أنها ناحت ولم تذر دمعة
ونحت وأسراب الدموع سفوح

وهناك أغنية خليجية جميلة أخرى ورد فيها ذكر الحمام الذي أهاج بغنائه لواعج الشوق لدى العاشق وذكره بمحبوبه البعيد الذي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق