(من كتاب لقطات.. يوميات منسية، الصادر عن دار لبان)
ظننت یومًا، وكما یظن البعض، أن “التمريض” مھنة سھلة، مجرد ساعات ضئيلة، نؤدي فیھا واجب العطاء وتنتھي بمجرد انتھاء ساعات العمل، غیر مدركين لأحداث وأشخاص يجوبون الممرات من حولنا.
صعب عليَّ وصف حزنها، فبأي حديث يروى فقدها؟
أتتنا مساء يوم الحادثة لزيارة زوجها وطفلتها، تبكي وبكاؤها قد انتشر كالعدوى فأبكى كل من بجوارھا. فقدت كل طاقتها، فاستلقت أرضًا دون فراش، بعيدًا عن أنظار طفلتها. أخذناها برفقتنا إلى غرفة معزولة، فكنا لها آذنًا صاغية، وحضنًا ارتأينا بدفئه أن يوقف رجفة الفقد القارس لديها.
حین تسمع حدیثھا، یتبادر لذهنك أنھا تتحدث عن شاب بالغ، أحسنت تربيته، فأكرمها حفظًا للقرآن ومرتلًا لآياته. كان خلوقًا، متفوقًا علمیًا، الحنون لإخوته والأقرب لقلب أمه، وكأنما حین تروي، تحكي عن صحابي جليل ستفتقد المساجد دبيب خطواته.
جن الليل وغارت النجوم، وھدأ رفيف العيون، وعلى مشارف فجر الیوم التالي، استيقظوا على حین غفلة على نيران أشعلت زوايا المنزل، ودخان التهم نقاء الھواء، وحرارة أغلقت كل المخارج وحبستهم داخل الحجرات. قفز الأب من علو السقف، محاولًا إنقاذ فلذاته، فأقعدته الأرض بكسر في قدميه. وبعد ٩ دقائق من نداء الواجب، وصل الدفاع المدني، وبأمان أنقذت الأم وطفلتها وأحد أبنائها وانتُشلت جثة الطفل الآخر ذي الـ١٠ سنوات وجثة عاملة المنزل، بعدما اكتظت صدورهم دخانًا حارقًا.
استقبلنا بحزن بالغ نبأهم، فأودعونا أمانة الأب وابنته بحالة حرجة، وخرجت الأم لتودع “الملاك” إلى مثواه الأخير.
أنصتنا لفضفضة قلبها جيدًا، وحاولنا بعدها لملمة كلمات طيبة، فعطرناها بذكر الله، حتى اطمأن قلبها وھدأت نفسها، وعادت بجوار طفلتها.