الثقافي
العرب بين أشعار بوشكين وسُعار بوتين
طـوال نـصـف قـرن و«الكلاشنكوف» السوفييتي معنا في نفس الخندق، وإن لم يقاتل إلا إنه كان يتحنى بطينة أرضنا ليحرق أعصاب الأعداء.
وطــوال نـصــــف قـرن ومــــدافــــع «الماوتزر» تعلم مدافعنا الغضب وإن لم تدك حصون الأعداء إلا أن مجرد اصطفافها معنا يثير الهواجس في تغيير قواعد الاشتباك فترتعد فرائص الأعداء ويتوازن الرعب.
وطوال نصف قرن و«الميج والسوخوي واليوشن» تعلم طيارينا اصطياد النسور والصقور فتكثر في خطوط التماس الجيف فتشبع الضباع والرخيم.
إلا أن السلاح السوفييتي يبدَّل عقيدته وفق المد والجزر في بحر «بارينز»، فينتقل بعد عقود من رفقة السلاح وشاي الخنادق وكسرة الخبز والاصطفاف الاستراتيجي مع العرب إلى أداة لقتل أطفال العرب ونساء العرب وكهول العرب ونخيل وخيول العرب.
ولأول مرة في تاريخ التحالفات مع «الكلاشنكوف وأرماتا والميج والسوخوي» يعري السلاح الروسي ظهور حلفائه التاريخيين في العراق فيتخلى الكرملين عن الرئيس صدام ويسمح للبنتاجون لأن ينسف الترسانة العراقية من السلاح السوفييتي وهي على الأرض، ويوزع بقاياها على المليشيات التي تقتل الحلم بعراق يتسع للجميع.
ويدير الروسي الظهور للحليف الليبي ويتركون القذافي يواجه مصيره مع سلاح حلف الناتو الذي يتحرك بغلٍّ وحقد لضرب السلاح الروس الذي امتلكه العقيد القذافي ويضربون معه الهيبة السوفييتية المرابطة على الضفة الأخرى للأبيض المتوسط، ويقتسم أمراء الحروب بقايا السلاح والغنائم.
أما في الشام فيتجاهل الكرملين العدو الصهيوني التاريخي لسوريا ويبدي عجزه حتى عن حماية وجوده العسكري من السواعد الطويلة لإسرائيل والتي طالت رصاصاتها الجنود والضباط الروس.
واقتصر دور الكرملين في كل مرة بتقديم طلب إلى إسرائيل تشرح فيه الأسباب المشفوعة باعتذار روتيني لا يخل بالتفاهمات العسكرية الروسية الإسرائيلية لتنتقل آلة الموت الروسية من توازن الردع مع العدو الإسرائيلي إلى التفنن في نشر الرعب وحصد أرواح أهل الشام بل اجتثاث الشام كله .
ووحدها القصيدة السوفييتية في الأعم والروسية في الأخص حافظت على اصطفافاتها العربية القديمة.
ولم تتنقل القصيدة الروسية من معسكر لاخر كما تنقلت البندقية الروسية من منكب إلى منكب.
وواصلت القصيدة الروسية التثمين لفضل المئدنة الإسلامية على الشرق، وفضل الشمس العربية الدافئة على صقيع الأراضي السوفييتية، وفضل الشعر العربي والميثولوجيا العربية وليالي القاهرة و بغداد في إثراء المناخات والطقوس وتوسيع أفق المتخيل الشعري الروسي.
واستمرت القصيدة السوفييتية على وفائها لعهود التاريخ ورفقة الدم والخندق والسلاح.
واستمر العربي في القصيدة السوفييتية على ذات ملامحه الصحراوية ونبله وقيمه، إذ تظهره سامقا كالنخل الذي يعطي الثمر وشامخًا كالرمح وهو يقطف لحبيبته نجمة من السماء ليطوق رقبتها قلادة ياسمين.
واستمرت الجغرافيا العربية في القصيدة الروسية تنشر السحر والخيل والنخل والعباءات القصب والقمر الفضي.
هذا «ألكسندر بوشكين» شاعر روسيا العظيم يسرج صهوة القصيدة الروسية نحو جزيرة العرب فيدخل غار حراء ليكتب:
«إنها ليلةُ القدرِ.
تلاقتِ الجبالُ واتحدتْ،
وصعدت ذراها نحو السماء.
كبّرَ المؤذّن.
وقطعُ الجليدِ ما زالت حمراء.
ولكن صقيع الظلام قد بدأ يتنفس في الثغور والوهاد.
إنها ليلة القدر.
والغيومُ ما فتئت تهبط
وتتشتتْ على سفوح الجبال المظلمة.
كبّرَ المؤذِّن. والنهرُ الماسيُّ يجري
أمام العرش المعظّم، وهو يتبخّر.
وجبريل ـدون أن يُسمَع أو يُرى
يلفّ العالمَ النائمَ.
ربي، باركْ
الدربَ الخفيّة للحج المقدس
وامنحِ الأرضَ ليلة من السلام والمحبة».
وفي قصيدة أخرى يستحضر «بوشكين» نافورة رخام فيعيد نحتها شعرًا:
بعد أن أخمد نار الحرب
في القفقاس والبلاد المجاورة
وأرياف روسيا المسالمة،
عاد الخان إلى (تفريد)
ولذِكر ماريا الآسية
شيد نافورة رخام
في ركن منعزل بالقصر
يعلوها صليبٌ يُظللّهُ
هلالٌ مُحمدي.
ولم يبتعد الشاعر «نيقولاي سيميونوفيتش تيخونوف» عن إطلالات بوشكين نحو جغرافية الإسلام فيمتطي تيخونوف صهوة ناقة باتجاه مدينة الرسول صلوات الله وسلامه عليه ليعانق النخل الأخضر والشعر المتجعد ونوقاً بأسنمة من دخان :
«لكم البشر،
لكم الغيوم،
لكم وحوش الصحراء.
أبوه جمل بأسنمةٍ كالدخان.
أمّه ذات الشعر المتجعد الأخضر نخلة في المدينة المنوّرة.
لقد اقتفيتُ آثار أقدامه.
ولكن قلبه قطعة جمر، وروحه ضالة.
تَعِبَ النخيل من هزّ الرؤوس نحو الشرق،
النبات يصلّي،
والأُسُود لا ترِدُ الماء
ليس مائة قبلةٍ،
بل حقاً ثلاث مرات سآخذ
منك مائة مع أول نجمة ليلية،
لكي تعود حياتي إليَّ
في ليلة القدر هذه».
ويدهشنا «ميخائيل يوريفيتش ليرمنتوف» حامل لواء الشعر بعد «ألكسندر بوشكين» في مناجاته لغصن فلسطين :
«حدثني يا غصن فلسطين
أين كنت تنمو, وأين كنت تزهر
أي وديان وهضاب كنت تزين؟
أكانت مياه الأردن الطاهرة بقربك؟
أم كانت شمس الشرق تداعبك
هل كان أبناء القدس الفقراء
يصلون بصوت خافت
أم يرتلون أناشيد الزمن الغابر
عندما كانوا يجدلون وريقاتك؟
لا تزال تلك النخلة
بهاماتها ذات الأوراق العريضة
تستدرج في قيظ الصيف
من يجوب تلك الصحراء
أم أنها ذبلت مثلك
ماتت من ألم الفراق
اخبرني أية يد تقية ورعة
جاءت بك غالى هذا البلد
هل كان صاحبها يحن إليك؟
وهل لا تزال آثار دموعه المحرقة عندك؟»
ويكبر جرح شاعر القوقاز «رسول حمزاتوف» وهو يغني لفلسطين :
«ليلٌ طويلٌ يضنيه حزنٌ موجع
ولا فجر للحزن
فأين أنت فلسطين؟ .
حارقٌ ربيعك
وشقاؤه حارق
شهيقٌ دائمٌ, فأين أنت يا فلسطين؟
يذبلُ وردٌ, ويجف نبعك
والمغيب دمويٌ
فأين فجرك يا فلسطين؟ .
خرس الطير على سعف نخلك المثبور
وصرت جرح جسد الأرض العربية البليغ
نامت القنابل على وسائد أطفالك, مكان اللعب
وسنَّ أطفالك خناجرهم في المهد
فأي الأغاني, أُغني لك يا فلسطين؟ .
وأجمل الأغاني أنت
يدق القلق أوتار الروح
فأي الحكايات أقص عليك, ولم يبق من حكاية مضيئة غيرك؟
غادر النوم, والأمان, عيون أطفالك
ولا سعادة لهم, يافلسطين
حزنٌ موحشٌ في تونس
ولا فرح في باريس
ولا أجمل منك يا فلسطين
مساجد القدس
ونهر الأردن
وكلنا نغني
نعرف أغنية واحدة
إننا سنعود إليك يا فلسطين ..
وتحضر فلسطين أخرى وبقوة في قصائد إبن «كالوغا وخريج جامعة موسكو وصاحب ديوان دفتر كازخستان» الشاعر «ستانيسلاف كونايف» وهو يعيدنا لفلسطينية ذات عينين تتقدان بالغضب :
في الرحاب العربية
لا في غابات أنصارنا الشمالية
رأيت في عينين لوزيتين
غضبا يعتز به الإنسان
يا فلسطينية عيناك تتقدان بالغضب
وأنت محرومة من الأسرة والديار
وراحتا يديك قائمتان من البندقية
فولاذ البندقية الرشاشة
ليس لأصابع الإناث الرقيقة
ولكنك تتطلعين إلى رحاب الصحراء
بنظرة عن شق «التنشين»
أفهم حماسك بلا كلمات
فأنا أيضا كنت طريدا
إبان الحرب
وأنا مثلك أعرف ثمن الحرية.
وفي قصيدة أخرى لنفس الشاعر وجاءت بعنوان طيور من الشرق يقول :
في سماء قرية عربية
على أطراف قرطاج العريقة
رأيت الطيور المهاجرة متجهة إلى الشمال»
ويقودنا «ميخائيل سفيتلوف» إلى «الليل الإستوائي» ليحدثنا عن أحلامه الغائبة في امتطاء الجياد بجزيرة العرب :
«لم أدخل الحانة في حياتي
ولم أشرب الخمر مع البحارة
ربما لن أمتطي الجواد في حياتي
ولن أجوب صحاري جزيرة العرب.
لن تتمكن يدي الخجول من نشر الشراع
ولن تدفع المجداف في دوامة الأعاصير
فالأطلسي يحب الفتيان ذوي البشرة المالحة».
ويومض قمر بغداد في قصائد الشاعر الكبير سيرغي يسينين :
«لم أسرْ إلى بغداد مع القافلة
ولم أنقل إليها الحريرَ والحنّاء
احني جذعكِ الجميل،
واتركيني على ركبتيك أرتح».
وتحضر شهرزاد في قصائده فيستعيد «سيرغي يسينين» أجواء ألف ليلة وليلة :
في البعد تلوح لنا بغداد
فيها عاشت
فيها غنت شهرزاد
لكن لا يلزمها شيء هذا الوقت
فرنيم حدائقها الغناء
الريح به أودت في البعد
هذا ما غنته شهرزاد
يوما مرة أخرى
سيحكي الورق الأصفر
ذو لون النحاس
إن من لا يشتهي شيئا بهذا العمر
لا يحتاج إلى الشفقة».
أما «أناتولي سوفرونوف» إبن إقليم «الدون» فقد اقترب من زنجبار وهي تسقط عام ١٩٦٤، وزار نيروبي عاصمة كينيا في نفس عام السقوط ليكتب من هناك رائعته من نيروبي عاصمة كينيا «أركض معك تحت الشمس» فجاءت مشحونة بالكوابيس التي تلاحقه، فكل ما رآه في منطقة «الدون» يراه في المنام في نيروبي :
«في الصباح تنصرف الأشباح فهي لا تعيش في الضوء
وتقتحم كينيا المعقدة
النافذة بصخب وضجيج
وتمر الأكواخ والأجمات والمزارع
تنهب الدرب مسرعة
وأبناء كينيا يبتسمون لي
فقد عرفوا صديقهم».
أما الشاعر «ياروسلاف سميلياكوف» فيكاد يكتب في وصيته عن حاجته للعلاج العربي بالكي، ولكن عبر ميسم ريح الصحراء الساخنة لأنه يريد ان يكون رحيله استثنائيا عبر درب التبانة لا عبر رواق المستشفى:
«إذا جرحت في معارك عادلة
ضمدوا رأسي بطريق جبلي
ولفوني ببطانية من زهور الخريف
لا تزرقوني بالأدوية والمستحضرات
عالجوني بريح الصحرء الساخنة
وبفضة الشلالات.
دربي مفروش بالغيوم
وليس بالمستحضرات الصفراء
أغادركم عبر درب التبانة
وليس عبر رواق المستشفى».
ولعل الكرملين الذي يسوق آلة الموت للشام لتغتال الأحلام والعصافير وتحرق مراييل المدارس ودفاتر الواجب وعلب الألوان لم يقرأ دواوين الشعر الروسي التي حققت هذه المؤاخاة بين سيبيريا والصحراء، وبين نهر موسكوفا والنيل ودجلة وبردى والفرات.
ولم يفطن للهفة الموج في بحر «بارينز» وشقاوة الكافيار في البحر الأسود وبين بحار العرب التي تقطعها البحرية الروسية وأساطيل الأطلسي.
ولم يلتفت الكرملين لحوار الأغماد بين سيوف بني أمية وبني العباس وصولجانات القياصرة.
لقد وقف الكرملين للأسف يتفرج على آلة دمار البنتاجون وهي تدك بلد الرشيد وتنسف الأعظمية وتقتلع مسلة حمورابي وتفجر مرقد المتنبي.
وسمح الكرملين للفرس لأن يعكروا صفو شط العرب ويحرقوا قلنسوة صلاح الدين ويسرقوا غمد سيف خالد.
وسمح الكرملين للتحالف الغربي لأن يجتث العزيزية ويحرق عباءة عمر المختار ويغير مسار النهر الليبي العظيم.
لقد دمر الروس كل شيء بعد أن كانوا لأكثر من نصف قرن أجمل حماة فصول التاريخ.
ووحدها القصيدة الروسية أو السوفيتية التي لم تتلون ولم تتنقل كما البندقية من منكب إلى منكب ومن عقيدة قتالية إلى أخرى.
وسيحتاج العرب لمائة عام أخرى ليظهر فيها بوشكين آخر يتطهر ببهاء ليلة القدر حيث «الغيومُ ما فتئت تهبط وتتشتتْ على سفوح الجبال المظلمة» فيرمم العلاقة ويكتب السطر الأول في الصفحة الأولى للتاريخ.
وستحتاج فلسطين لمائة عام ليظهر «ستانيسلاف كونايف» جديد ليتحدث عن «الغضب الذي يتقد في العينين اللوزيتين».
ومهما بلغ المدى الذي تقطعه الصواريخ الباليستية العابرة للقارات ستبقى أقصر بكثير عن المدى الذي بلغته القصيدة الروسية فقد كانت حدودها الإنسان بينما الصواريخ حدودها إزهاق أرواح الإنسان.