الثقافي
رحالة زاروا عمان .. جورج كرزون
تكتسب منطقة الخليج العربي أهمية استراتيجية جديدة منذ بداية القرن العشرين حتى الحرب العالمية الأولى. وتشهد مجموعة من رحلات السياسيين الغربيين والإداريين، ما يُشير إلى أنها باتت على أعتاب حقبة جديدة من تاريخها، سطرها لها الاستعمار العالمي.
د. علي عفيفي علي غازي
وتُعدّ رحلات المبعوثين السياسيين الأوروبيين إلى المشرق العربي مصدرًا تاريخيًا ثريًا، هذا الإرث الثمين الذي يضمّ المئات من النصوص النادرة التي تُقدم مادة أولية لدارسي التاريخ الحضاري والسياسي والاجتماعي للمنطقة العربية عامة، ومنطقة الخليج العربي خاصة، عبر خمسة قرون من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين، إذ إن هؤلاء المبعوثين كانوا ملزمين عند عودتهم بكتابة تقارير يرفعونها إلى مرؤوسيهم، وهذه التقارير فضلا عن أنها تُبين كيف يُمارسون أدوارهم الدبلوماسية؟ وكيف يؤدون المهام التي يكلفون بها؟ فإنهم كانوا لا يهملون بوادي المنطقة التي يمرون بها وفيافيها ومجاهلها، ناهيك عن مدنها وبلداتها وقراها ومضارب بدوها، فيقدمون وصفًا فريدًا لجغرافيتها وطبوغرافيتها ومعمارها وهيئة أهلها، واقتصادها ومواردها وإنفاقها، فخرجوا بمؤلفات إبداعية فريدة، فضلا عن الشهادات والوثائق التي يقدمونها عن الأشخاص الذين يلتقونهم، وكذلك الخرائط والصور النادرة. ولعل اللورد كرزون، كان الرحالة الأول في سلسلة هذه الرحلات التي اختلفت بعد هذه الفترة هدفًا وشكلا ومضمونًا.
يأتي في مقدمة المبعوثين السياسيين اللورد جورج ناثانييل كرزون George Nathaniel Curzon (1859-1925) أحد مشاهير رجال الحكم، الذي قضى 27 عامًا من حياته في خدمة الإمبراطورية البريطانية، التي لا تغيب الشمس عن ممتلكاتها ومستعمراتها. ينحدر من أسرة إنجليزية نبيلة، وهو الابن الأكبر من أحد عشر ابنًا وبنتًا للقس ألفريد كرزون ذي الأصول النورماندية العريقة، ويعود اسم كرزون إلى مقاطعة فرنسية «نوتردام دي كورزون Notre Dam de Courson»، ولد في قصر العائلة بدربي شير في 11 يناير 1859، وقضى الأيام الأولى من حياته في كيدلستون وإيتون من أعمال ديربي شير، ثم انتقل إلى باليول Balliol بعد حصوله على منحة دراسية قضى فيها أربع سنوات (1878-1882)، ثم التحق بجامعة أوكسفورد 1878 لتبدأ طموحاته العظيمة، إذ ظهر نبوغه المبكر، وبدأ أولى خطواته في مدارج السياسة حين أصبح رئيسًا لاتحاد الطلبة.
يُمكن تقسيم حياة اللورد كرزون إلى مرحلتين: الأولى تشمل الأربعين سنة الأولى من حياته، وكانت مليئة ومزدحمة بفعالية، ومفعمة بسلسلة من العمل اليومي، إذ بدأ حياته العملية في عام 1885 مساعدًا للسكرتير الخاص للورد سالزبري، وما لبث أن انتخب في العام التالي نائبًا في البرلمان عن ثاوثبورت في جنوب غرب لانكشير، وهو دون الثلاثين من العمر، وتقلّد العديد من المناصب الدبلوماسية، وتتضمن جولتين حول العالم، إذ بدأت في عام 1888 أولى جولاته في روسيا وآسيا الوسطى، تلتها جولة أخرى في فارس 1889-1890، وأخذته أسفاره في عام 1892 حتى سيام والهند الصينية الفرنسية، وتجول في أفغانستان في عام 1894، ثم سبع سنوات أهلته رحلاته وأبحاثه ليشغل فيها منصب نائب الملك حاكمًا عامًا للهند البريطانية (1898-1905)، وهو المنصب الذي كان يتقلده عند زيارته للخليج، وكان همه مقصورًا في تلك الفترة على كبح جماح الإمتداد الروسي في آسيا الوسطى والخليج العربي.
أما المرحلة الثانية فتضمّ العشرين سنة الأخيرة من حياته، والتي تبدأ بوفاة زوجته ماريا في 18 يوليو 1906، وكانت وفاتها أكبر مصيبة عانى منها كرزون في حياته، ثم عاد إلى ميدان العمل السياسي بدعوته ليكون ضمن الفريق الحكومي لإدارة الحرب العالمية الأولى، ورغم ارتباطه بالروائية اليانور جلن إلا أنه ظل يُعاني من الفراغ العاطفي، ثم ما لبث أن تركها وتزوج الأرملة الثرية جريس إلينا هندس في عام 1917، وهي أمريكية، وتمنى أن يُنجب منها ابنًا ذكرًا، وهو الرجاء الذي لم يتحقق فهجرها وانفصلا من دون طلاق، وعقب الحرب العظمى عُين وزيرًا لخارجية بريطانيا (1919-1924)، ولم تطل أيامه بعد خروجه من الحكومة، إذ توفي في 20 مارس 1925، إثر جراحة غير ناجحة أجريت له في لندن، ونُقل جُثمانه حيث وري الثرى في مسقط رأسه، تاركًا العديد من المؤلفات، أغلبها في شؤون السياسة الخارجية لبريطانيا. وعلى الرغم من أن كرزون لم يُعرف عنه تمسكه بدينه، إلا أنه صرح في آخر أيامه بأنه لا يخشى الموت لأنه سيجمعه مع ماريا في الدار الآخرة، ولربما ألقى الاضطراب العاطفي بظلاله على تلك الشخصية القلقة، التي تركت بصماتها في تاريخ السياسة البريطانية في الشرقين الأوسط والأقصى.
قام اللورد كرزون بزيارة لمنطقة الخليج العربي، تصفها كافة المصادر المهتمة بسياسة بريطانيا في المنطقة «بالتاريخية»، وذلك في نوفمبر 1903، حيث كانت منطقة الخليج العربي تقع في دائرة حماية حكومة الهند البريطانية، لأهميتها كخط دفاع استراتيجي عنها، زار خلالها عواصم أقطار الخليج وموانئه، لتفقد دولاب العمل في المقيميات والوكالات البريطانية، والتقى بالشيوخ العرب الذين تربطهم معاهدات حماية وصداقة مع الحكومة البريطانية، بدأت من ميناء كراتشي الهندي في يوم الاثنين 16 نوفمبر مستقلا السفينة «هاردينج» ترافقها مجموعة من السفن الحربية الضخمة بكامل تجهيزاتها الحربية والاستعراضية، وصحبته زوجته «ماريا فيكتوريا ليتير» ابنة مليونير أمريكي من أصل ألماني، فوصل مسقط في 18 من الشهر نفسه، فاستقبلته بعثة السيد فيصل بن تركي البوسعيدي، سلطان عمان (1888-1913)، وما إن عاد الوفد السلطاني إلى الساحل حتى تقدم السلطان فيصل في صحبة الميجور برسي كوكس، الوكيل البريطاني في مسقط، مع مجموعة من الأعيان، وصعدوا إلى السفينة «هاردينج»، ثم زار مقر المقيمية البريطانية في مسقط، وزار السلطان العماني في قصره، ودامت الاحتفالات واللقاءات على مدى يومين.
غادر اللورد كرزون بعدها ميناء مسقط إلى تفقد منطقة رؤوس الجبال، ثم أبحر بين مضيق جزيرة مسندم والساحل الرئيس في اتجاه الناحية الغربية من تلك الجزيرة، ويقوم بتفحص الجزر في الطريق حتى يصل الشارقة في غرة رمضان 1321هـ/ 21 نوفمبر، وفيها اجتمع مع شيوخ الساحل العماني: الشيخ زايد بن خليفة آل نهيان شيخ أبو ظبي (1855-1909) رافقه اثنان من أبنائه، والشيخ صقر بن خالد القاسمي شيخ الشارقة (1883-1913) رافقه أحد أبنائه، والشيخ مكتوم بن حشر آل مكتوم شيخ دبي (1894-1906) مع أحد أبنائه أيضًا، والشيخ عبد العزيز بن حميد النعيمي ابن شيخ عجمان الذي لم يتمكن من الحضور لمرضه، والشيخ راشد بن أحمد بن عبد الله المعلا ابن شيخ أم القيوين الذي كان شيخًا طاعنًا في السن ولم يتمكن من حضور المناسبة. ثم انطلقت رحلة نائب الملك تجاه بندر عباس، وزار بعض الموانئ الفارسية: بندر عباس وهرمز وقشم، وتفقد جزيرة هنجام وباسيدو ولنجة، ومن ثم أبحر إلى البحرين ليلقي فيها مراسيه صباح 26 نوفمبر، يصعد إلى ظهر سفينته الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة ولي عهد البحرين يرافقه وزير الشيخ للترحيب بالزائر، ثم التقى بعد ظهر اليوم نفسه بالشيخ عيسى بن علي حاكم البحرين (1869-1932) مصحوبًا بأبنائه الثلاثة، وقام النائب ومرافقوه بجولة في المنامة، زار فيها مقر الوكيل البريطاني. وكانت هناك ترتيبات للالتقاء بشيخ الدوحة الشيخ أحمد بن محمد آل ثاني في المنامة، ولكن الترتيبات لم تتمّ في التوقيت المناسب، وبالتالي لم يُعقد اللقاء.
استكمل كرزون جولته في الخليج إذ واصل إبحاره إلى الكويت، التي وصلها صباح يوم 28 نوفمبر، وما أن ألقت السفينة «هاردينج» مراسيها، حتى صعد على ظهرها الشيخ مبارك الصباح، يرافقه كمبال المقيم السياسي ليستفسر عن صحة اللورد كرزون، وليستعلم عن الموعد المناسب للزيارة الرسمية، والتي تمّت بعد ظهر اليوم نفسه. وفي اليوم التالي بعد أن قام النائب بجولة بحرية استكشف فيها خليج كاظمة، نزل في بندر الشويخ، حيث كان في انتظاره حاكم الكويت مع أبنائه ومجموعة من الأعيان، وعقد اجتماع في بيت الشيخ المواجه للبحر، قدمت فيه القهوة العربية. وبعد ظهر اليوم نفسه زاره الشيخ مبارك مرة أخرى على ظهر السفينة «هاردينج» ليُعلن تخليه عن علاقته مع العثمانيين، ورفضه العروض التي قدمتها له فرنسا وروسيا، ودخوله تحت الحماية البريطانية. وقد تمكن كرزون من دفع حكومة لندن إلى الموافقة على عقد اتفاقية مع الكويت لتدخل تحت حماية بريطانية غير رسمية لمجابهة المد الألماني والروسي، ولحجب المؤثرات العثمانية عن الخليج. وفي مساء نفس اليوم غادر نائب الملك الكويت على ظهر السفينة «لورنس» تصحبها السفينة «سفينكس» متوجهًا لاستطلاع خور عبد الله، واختبار عمق المرسى في خور موسى، وكان هناك ترتيب للالتقاء بخزعل بن جابر الكعبي شيخ المحمرة (1897-1936)، ولكن لم تنجح الترتيبات، وبعد ذلك توجه اللورد كرزون إلى بوشهر فوصلها صباح 2 ديسمبر، ليُغادرها بعد يومين عائدًا إلى الهند مُنهيًا بذلك جولته في الخليج العربي.
هدف كرزون من زيارته ظاهريًا أن يقف على سير العمل في المؤسسات الهندية في الخليج، وأن يلتقي شيوخ العرب الذين تجمعهم علاقات تعهدية مع حكومة الهند، وإجراء محادثات مع شيوخ الخليج، بهدف إدخالهم تحت الحماية البريطانية، خوفًا من التوسع الإيراني في الخليج، والتي كان يرى أن أي توسع لها هو بالتالي توسع لروسيا القيصرية، كما كان يهدف إلى إظهار السلطة والسيادة البريطانية في الخليج ردًا على زيارات السفن الحربية الروسية والفرنسية لها، وتبليغ شيوخ الخليج قولا وفعلا أنهم تحت حماية قوة دولية جبارة، وتبليغ رسائل إلى القوى الدولية المختلفة تُفيد بأن الهيمنة البريطانية على الخليج تامة وناجزة، وأن دولته لن تسمح لأي قوة دولية أخرى بمشاركتها تلك السطوة التي بنتها بتكاليف باهظة عبر تاريخ طويل. وأفلح أخيرًا في دفع وزير الخارجية لانسدون إلى أن يُعلن في مجلس العموم البريطاني في عام 1903 بيانًا عن أن الحكومة البريطانية لن تسمح بوجود أي قواعد دولية في الخليج، ونجح في بسط النفوذ البريطاني على زعماء الساحل المتصالح بمزيج من الدبلوماسية، وضمن اعترافًا رسميًا بسيادة البريطانيين في المنطقة، وبتفوقهم على الفرنسيين والروس والألمان والعثمانيين. ونجح في زيادة الروابط السياسية لإمارات الخليج العربي قوة ببريطانيا. ونادى صراحة بأن الوجود البريطاني في الخليج العربي يجب أن يظل من غير منازع، ويجب ألا تُشارك أي قوة دولية أخرى بريطانيا في هذه المنطقة، تأكيدًا للتفوق السياسي والتجاري الهندو – بريطاني في مياه الخليج.
وسعى كرزون من خلال جولاته إلى أن يُقدم للحكومة البريطانية دراسات جيوسياسية جادة عن الأرض والسكان، والمشكلات السياسية التي يتحتم على الحكومة رصد انعكاساتها على الهند البريطانية، ونذر حياته السياسية للعمل على مجابهة منافسة روسيا القيصرية للوجود البريطاني في تلك المناطق. يَضاف إلى ذلك أن جورد كرزون كان كاتبًا إذ كتب عدة كتب ودراسات عن المناطق التي زارها، وجميعها طبعت ونشرت في حياته، الأمر الذي أهله لنيل جائزة الجمعية الجغرافية الملكية.
المصادر والمراجع
إيرل رونالدشاي: حياة اللورد كرزون، السيرة الذاتية لجورج ناثانييل كرزون، ثلاثة أجزاء، محمد عدنان السيد (ترجمة)، أحمد إيبش (مراجعة وتحرير)، (أبو ظبي: هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، 2013).
ج. ج. لوريمر: دليل الخليج، القسم التاريخي، الجزء السابع، (الدوحة: ديوان أمير دولة قطر، 2002)
عبد العزيز عبد الغني إبراهيم: روايات غربية عن رحلات في شبه الجزيرة العربية، ثلاثة أجزاء، الجزء الثالث 1900-1952، (بيروت: دار الساقي، 2013).