الفني
التكوين تحتفي بفوز المدق بجائزة المسرح الخليجي
يوسف البلوشي: فوز «مدق الحناء» جائزة مهمة للمسرح العماني
أعرب رئيس فرقة مزون المسرحية المخرج يوسف البلوشي عن سعادته البالغة بحصول عرض “مدق الحنا” على جائزة أفضل عرض متكامل في مهرجان المسرح الخليجي الذي استضافته الشارقة مؤخرا، معتبرا أن الفوز “جائزة مهمة للمسرح العماني، وتتويج مهم له، ولكل ما بذل من جهد وتعب، حيث بذلنا فيه الفكر والتعب لنقدم عرضا مميزا”، مقدما شكره لجميع الفنانين والفنيين الذين وقفوا مع الفرقة منذ بداية الاستعدادات وحتى إعلان الفوز الذي تسلم جائزته من سمو حاكم الشارقة الشيخ سلطان بن محمد القاسمي.
واعتبر لحظة التتويج «لحظة مهمة في مسيرة أي فنان أراد أن يقدم شيئا لوطنه» مضيفا أنها «لحظة لن تنسى في ذاكرتي أبدا»، وقال: «شاركت في أكثر من مهرجان خليجي، سواء المهرجان الخليجي لمجلس التعاون الذي تنظمه الأمانة العامة أو مهرجان الشارقة للمسرح الخليجي، حيث شاركت مع جميع الفرق العمانية كمتعاون، ومحاولة لنقدم شيئا للمهرجان العماني، وكانت أمنية على مدار سنوات طويلة لم تتحقق، وهذا العام تحققت، لذا سعيت أن تكون مشاركة مميزة، والحمد لله توجت المشاركة بفوز أعتبره مسؤولية كبيرة، فأن تتوج بأفضل عرض في المهرجان الخليجي تقدير كبير وبالغ الأهمية لجهود بذلت، بعد عطاءات كثيرة بذلت للمسرح العماني، مني شخصيا أو من فرقة مسرح مزون أو كل المسرحيين، وجاءت لحظة التتويج الحقيقية، وكنا كمسرحيين في السلطنة بحاجة إليها لأننا بحاجة إلى تقدير أكثر للمسرح وللفن كالسينما والدراما.
ويشير يوسف البلوشي إلى أن إعلان النتيجة جاء بعد منافسة حامية مع العرضين الإماراتي والكويتي، وحسمت في اللحظة الأخيرة لينالها العرض العماني، ويضيف: «الحمد لله نافسنا على جميع الجوائز، والتكريم الخليجي يختلف عن أي تتويج بعد أن حصلت على جوائز عربية ومحلية لكن لحظة التتويج الخليجي أعتبرها مهمة جدا ومختلفة ولها مذاق آخر، في الخليج هناك منافسة بين فرق مسرحية عالية المستوى، وتمتلك خبرات وأكاديمية حقيقية، أن ننافسهم ونفوز فهذا بحد ذاته إنجاز وتكريم للمسرح العماني».
وتحدث المخرج يوسف البلوشي عن الاستعدادات للمشاركة في المهرجان، قائلا «استعداد كبير جدا جدا من لحظة الترشيح للمشاركة، حيث تركت جانبا تصوير مسلسل سدرة، وهو هم كبير آخر، وسيكون حاضرا على القناة العمانية في شهر رمضان المقبل، لأتفرغ لتجهيز عرض مدق الحناء».
واضاف البلوشي: تقديم هذا النص كان محض صدفة، «حيث فوجئنا بأنه لم يكن أمامنا إلا يومين نظرا لانشغالي في تصوير مسلسل سدرة، وكان أمامنا هذا النص الوحيد وقد تمت إجازته، ولم يكن لدينا الوقت للبحث عن نص آخر، عنوان النص «أم الخير» وقلنا عساه فيه الخير، وغيرنا عنوان النص وحاولنا تقريبه إلى الثيمة الشعبية العمانية بإدخال بعض الأهازيج الشعبية والموروث العماني في الموسيقى».
وعلى مستوى تجهيز الشخصيات تحدث يوسف البلوشي بالقول: تمت دراسة الأبعاد المادية والنفسية لها، واختيار الممثل القادر على أداء الأدوار، مضيفا: «قمت باختيار مجموعة من الأسماء الكبيرة، الفنان العراقي الكبير عزيز خيون وعبدالحكيم الصالحي وعبدالله مرعي ومجموعة من الفنانين المعروفين في المسرح العماني ومن الفرقة، كزينب البلوشي وعيسى الصبحي وغيرهما من فريق العمل الذي تكاتف مع بقية عناصر العرض، وهناك في الديكور أحمد الجابري، مع الاستعانة بكثير من الاخوة من الفنانين العمانيين».
ويوضح المخرج الضغوط التي واجهوها قبل المهرجان، وقال: «لم أكن أنام إلا ساعات قليلة، حيث ننتهي من البروفات منتصف الليل، ثم نجلس لنفكر في تطوير العرض، اشتغلنا في البروفات فترة طويلة لتجويد العمل أكثر، والتواصل صباح اليوم التالي، انتقينا كل شيء بحذر، وكنت أمام إشكالية أن العرض يعتمد على «أم الخير» وهي سفينة، جاثمة وسط الخشبة، وكيف أتصرف، وجاءت الأفكار والرؤى، الحناء لم تكن موجودة، ولكن استخدمنا المدق للدلالة على الاستنهاض والحرية والخطر، على اعتبار أن هذا المدق هو الحياة، لأن الحناء يستخدم للفرح، ندق على الحناء تعني أننا ندق على الفرح، وهذا الدق يستنفر الطاقات في المدينة التي سيطر عليها «رسلان» وهو ابن المدينة تحكم في مدينته لأخذ خيراتها، لكن جاء الغرباء وأخذوا تلك الخيرات، وتركوا للمدينة السلاح، وهذا ما نعانيه في هذا الوقت كما نشاهد ونسمع يوميا في عالمنا المعاصر».
ومن التحديات الأخرى أشار البلوشي إلى صعوبة توفر مكان لإقامة البروفات، مقدما «الشكر والتقدير لمدارس التكوين التي أعطتنا الفرصة لإقامة البروفات في المدرسة» مشيرا إلى أن الفرقة لم تعمل على بروفة رئيسية لصغر المسرح في المدرسة «لأن لدينا مجاميع، أكثر من أربعين شخصًا على خشبة المسرح في العرض، غير الفريق الذي في الكواليس، حتى في الشارقة تزاحمت الأمور علينا على اعتبار أن هناك حفل افتتاح، لكن كان الشباب على قدر من الوعي والإدراك والوطنية لتقديم هذا العمل بالشكل المطلوب والحمد لله.
وقال المخرج يوسف البلوشي إن تحديات المسرح العماني كثيرة ونواجهها منذ سنوات منها ولم تحل إلى يومنا هذا، ولم نلق الدعم الكافي والاهتمام الكافي، لكن دعم الفنانين أنفسهم وحبهم للمسرح ولوطنهم وتمثيل السلطنة هو الدعم الحقيقي لنقدم الأفضل والأجمل.
وتحدث البلوشي عن غياب الدعم، فقال: «لم نجد دعما للمشاركة إلا من قبل إدارة المهرجان، كونه مدعومًا من قبل الشارقة وعلى رأسها الشيخ حاكم الشارقة، هذا الرجل الذي نكنّ له كل الاحترام والتقدير لدعمه للمسرح العربي، وفي مرحلة من المراحل كدنا أن نوقف البروفات بسبب الأزمة المالية، المهرجان لا يعطيك المبالغ إلا قبل المهرجان بأسبوع أو عشرة أيام، لكن تكاتفت الجهود من عناصر الفريق وغيرهم لدفع المبالغ».
«لم نجد تكريما أيضا»، هذا ما يقوله بأسى المخرج يوسف البلوشي معربا عن أمله بتكريم هؤلاء الشباب الذين أعطوا لما فيه رفعة المسرح العماني، «لم يكن هناك دعم، ويبقى السؤال هل هناك تكريم بعد هذا الفوز؟، لا شيء واضح حتى الآن»، مضيفا: «آمل أن يقدم هذا العرض في السلطنة، وأن يعرض العمل في دار الأوبرا السلطانية، وإذا كانت الأجندة ممتلئة حاليا فربما لاحقا لتقديم هذا العمل».
“مدق الحناء” نجم الدورة الثالثة لمهرجان المسرح الخليجي
هكذا كانت البداية من عمق الموروث حيث الحناء بما لها من جذور تمتد إلى عمق التراث العربى فهى ذلك النبات الذى يستخلص منه ما هو قرين الأفراح العربية حيث لا يخلو فرح من ليلة تسبق ليلة العمر أو ليلة الدخلة هى ليلة الحناء (بروفة) عربية للفرح.
محمود كحيلة
بتلك الأهمية كان «مدق الحناء» العماني نجم الدورة الثالثة لمهرجان الشارقة للمسرح الخليجي، ذلك النوع المسرحي الذي تضيفه الشارقة إلى سلسلة الأنواع المسرحية التي لا تتوقف عن إنتاجها ودعمها ورعايتها بتوجيهات سامية من صاحب السمو حاكم الشارقة وعاشق الثقافة والفنون وخاصة المسرح الدكتور سلطان بن محمد القاسمي, وهذا النوع المسرحي يختص بالعروض المسرحية التي ينتجها الخليج العربي بهدف حقن المسرح الخليجي بمزيد من أسباب رقي وتقدم المشهد المسرحي الخليجي والعربي.
ورغم كل ذلك يأتي (رسلان) ممثل أول الشر في هذه الدراما المسرحية والذي قام بتمثيله بوعي شديد الممثل العراقي (عزيز خيون) محاولًا أن يقدم الشر بصيغته العصرية الرقيقة المسرفة في الهدوء والدبلوماسية حد النصب والخداع الذي يتمتع بها شريرو اليوم حتى إن المشاهد يستنكر أن يصدر الشر عنهم أو منهم وهو بكل بساطة معقل للإجرام يصادر على الفقراء فيأمر بأن يوقف طحن الحناء في هذه المدينة لأن أصوات المرجل أو المدق تزعج نومه وهو إنما بذلك يصادر الفرح ويستدرج القوم إلى الغوص في الحزن الشديد بما يدبر لهم من مكائد ليس آخرها موضوع مدق الحناء الذي كان مخرج العرض يوسف البلوشي من الذكاء بأن يجعلها أيقونة العرض وأن يستخدمها في العديد من فاعليات المسرحية فهي إلى جانب كونها مصدرًا للمؤثرات الصوتية تتحكم في إيقاع العرض الذي بدأ بها وانتهي اليها هي نفسها أريكة الطفلة النائمة (زهرة) إبنة (صخر) الذي هو نفسه صديق (الهجرس) الذي هو الزراع اليمني لرسلان، ويعتبر الهجرس أكثر الشخصيات التمثيلية أهمية في هذه الدراما المسرحية فهو البطل التراجيدي الواقع بين فكي الرحى في أهم مشهد من المسرحية حيث يخير هذا الشاب الطموح بين أن يُقتل من قبل سيده (رسلان) كبير الأشرار الذي يتصدر مشهد الوجهاء والذي يفترض أن (الهجرس) ذراعة اليمنى والطامع في حقيقة الأمر في سقوطه لكي يتولى الوجاهة من بعده لكن رغما عن إرادته كان للمؤلف المسرحي تدبير آخر أسقط هذا الحالم في حلمه فها هو يخير أمام أعين الناس بين الولاء لذلك الشرير الذي أوقعه في الفخ وبين الإخلاص إلى أعز أصدقائه الصديق الذي كما أوضحت الدراما أقرب إليه من الأخ الشقيق ورغم ذلك آمامة ثواني ليقرر أو يختار بين حياته شخصيًا وبين حياة صديقه، ورغم أن كافة أهالي المدينة يحاولون دعوته إلى عَدم قتل صديقه ويتوسلون إلى الصديق الذي أعلن تمرده على الوجيه وصعد فوق ساري السفينة من غير إذن منه ولا أمر.
هكذا في عرض مدق الحناء الذي قدمه مسرح مزون العمانية في مهرجان الشارقة للمسرح الخليجي، وتوّجه كأفضل عرض متكامل، يتفاقم الوضع حيث لا أحد يستطيع أن يثنى أي منهم عما اعتزم الكل متمسك برأيه إلى درجة الموت حيث يضغط (الهجرس) على الزناد ويقتل صديقه في لحظة دفاع عن الحياة وعن النفس الأمارة بالسوء لأن ضميرعبد الحكيم الصالحي الذي قام بدور (الهجرس) لا يتركه في حاله ولذلك يجلد ذاته ويلوم نفسه ويمزق أصابعه بنفسه فيضربها بعصبية شديدة في مدق الحناء أيقونة العرض ليستمر تداول المنجل في كل مشاهد العرض حتى القبر الذي دفن فيه (صخر) شاهده من ذات المنجل الذي ظل شاهدًا على الأحداث ينتقل معها من مشهد إلى آخر حتى أوصلنا إلى مشاهد النهاية حيث المنجل منجلان أحدهما يدفعه بعنف وتحد وقوة ذلك الكهل الكفيف (زيدون) والذي قام بتمثيله بجدارة كبيرة ووعي عبدالله مرعى.
أما المنجل الآخر في الجهة المقابلة من المسرح فهي للمرأة التي تمارس عملها في هذا العرض (زينب البلوشي) التي قامت بدور الأم بائعة الحناء، وأم (الهجرس) تلك المكلومة في ولدها عندما كان خارجا عن طوعها متمردًا عليها وعندما ضاع نتيجة تورطه مع ذلك الآفاق الشرير (رسلان) وقد قدمت هذه الدراما العمانية الخليجية الفريدة في إطار من الغناء التراثي الشعبي العماني وعلى إيقاع المنجل أو المدق الذي لازم مشاهد العرض بإيقاعه المتغير حسب مقتضيات تلك التراجيديا المسرحية التي كتبها للمسرح السعودي عباس الحايك ورسم لها السينوغرافيا يوسف البلوشي.
لقد وظف البلوشي المجاميع بشكل ساحر داخل هذه الدراما التي مرت على كثير من القضايا الإنسانية والعربية الراهنة من دون أن تتوقف عند محطة بعينها وذلك جيد في الوقت الحالي لأن كل المحطات أصبحت خطرة والمهم أن نلتف لكي تسير السفينة التي صممها (ديكورست) العرض أحمد الجابري بحيث تبدو كما لو كانت تحملنا في طريقها إلى حيث تسير الأمر الذي يجعل المشاهد يبدو جزءًا لا ينفصل عن ذلك العرض الجيد الذي يؤكد في مجمله أن المسرح العربي العماني قادم وبقوة لأنه أصبح يمتلك مواهب راقية في كثير من عناصر العرض المسرحي لأن المكياج الذي صنعته (عزيزه البلوشي) بالشخصيات لتجعلها تبدو في صورة تراثية أو تسقط على الواقع بدت من شدة جودتها كما الواقع باللحى والشعور المستعارة والشوارب الملفتة وكذلك الملابس التراثية التي كانت حلية العرض الرائع.
مدق الحناء .. مسرح الانتصار للهوية الوطنية
حينما يخون الانسان أرضه، أرض الحناء الهادئ، ويمد العون للغريب المستعمر لن يجد مكانا يختبأ فيه، فيختنق بغدره ويفنى..
تلك هي خلاصة مسرحية «مدق الحناء» التي قدمتها فرقة «مزون» العمانية وأخرجها يوسف البلوشي عن نص للمؤلف عباس الحايك، المتوجة بجائزة أفضل عرض ضمن الدورة الثالثة من مهرجان المسرح الخليجي، وبقدر ما جسّد هذا العمل المسرحي لوحات الصراع الدرامي بين الظلم والحق الذي خاضه مزارعو حقل الحناء ضد الطاغية «رسلان» من اجل تحرير ارضهم بقدر ما استبطن صراعا نفسيا خفيا موازيا يعيشه الإنسان حينما يكون مخيرا بين المبادئ العليا السامية وبين المصالح الشخصية .
دلالة العنوان
«مدق الحناء» هذا العنوان الذي يقع في القلب منذ الوهلة الاولى يحيلنا إلى عالم تعبق منه رائحة الموروث التقليدي العماني.. رائحة أزهار الحناء تفوح من المكان وتفلت من الكلمات، لكن إيقاع المدق يعصف بهدوء هذا العالم الجميل وينذرنا بأزمات وعراقيل يعيشها الشخوص في حقل الحناء، وينسجم كل ذلك مع المحور الرئيسي لمهرجان المسرح الخليجي وهو الاحتفاء بالموروث التقليدي في بلدان الخليج، فجاءت الأزياء والديكورات تقليدية خادمة لمضمون العمل منسجمة معه من جهة، ومنضوية في صلب محور المهرجان من جهة أخرى.
حكاية المسرحية ومأساة الخائن
تتميز حكاية «مدق الحناء» منذ البداية بالغرابة الساحرة فكأنها حكاية من حكايات الجدات القديمة, حكاية تهدهد جمهورًا يشاهد العرض بأعين مفتوحة وعقول حائرة… لكأنها حكاية قريبة بعيدة, جديدة غريبة، فهذه سفينة «نوح» وهؤلاء البشر حولها قد جاؤوا من عصور بائدة.. ماحكايتهم؟
وتأخذك الجوقة الغنائية التي تنشد عذب المواويل بإيقاع موسيقي حي باعتماد العود والآلات الموسيقية الشعبية العمانية إلى عوالم متخيلة.. إلى عالم الأساطير والخرافة، وإلى زمن المسرح اليوناني حيث كانت الجوقة الموسيقية الغنائية تصوّر الصراع الدرامي تصويرا غنائيا ينير الدرب أمام المشاهد لفهم والتقاط تفاصيل العرض وأبعاده وفك رموزه، فتلك الفواصل الغنائية عمّقت المعنى، وأبرزت الازمات التي مر بها «هجرس» في كامل مشاهد المسرحية.
نفهم الحكاية أنه في تلك المدينة «غير الفاضلة» يمارس ربان السفينة (رسلان)، وقام بالدور الممثل القدير عزيز خيون، بطشه وظلمه على سكان حقل الحناء، وهناك أيضا العميل (هجرس)، وقام بالدور عبد الحكيم الصالحي، يتآمر مع الطاغية ويبيع ضميره ويقتل صديقه طمعا في رضا الربان، وتحاول أمه، وقامت بالدور زينب البلوشي، لومه، وتعمل على دق الحناء بواسطة مدق تقليدي عملاق في أغلب فصول المسرحية وكأنها في حركة نضال متواصل ومنتظم للحفاظ على خصوصية وهوية مزارعي الحناء و تقاليدهم، لكن «هجرس» لا يتراجع ويكون فناؤه بيده حينما يستسلم للرحي داخل مدق الحناء فتكون لحظات الوداع بين الأم والإبن الضال وداعا مرا يليق بمأساة هجرس الخائن على وقع انغام شعبية تنشدها الجوقة الموسيقية.
حداثة الشكل المسرحي تنهل من التراث
قصة «هجرس» المارق عن جنة الحناء طمعا في رضا ربان سفينة «الخلاص» قصة مؤثرة لا سيما وأن مناخ المسرحية في الفصول الأولى منه يغرقنا، ويغرق في السواد تخيلا ومشاهدا، ثم يزجّنا في فضاء يشعّ بالاضواء والألوان من خلال اعتماد إضاءة ذكية تبرز تناقض مشاعر الشخصيات، وتبثّها في قلوب المشاهدين بثا سلسا يكشف رهافة الحس الفني لمصمم الإضاءة عبدالله الوهيبي الذي حظي بجائزة أفضل اضاءة ضمن المهرجان، ولعل من أبرز المشاهد البصرية المبهرة التي تم توظيف الضوء فيها توظيفا تعبيرا جميلا نذكر مشهد انفجار مشاعر الأمومة في تناقض واضح مع مشاعر الوفاء للوطن ونبذ الخائن التي عاشتها أم هجرس في لحظة نفسية حاسمة لكنها مؤلمة كانت أشبه بالدوار حين شهدت موت الابن الضال فتشظت الأنوار وانفجرت الظلال على إيقاع موّال جنائزي مؤلم رقصت فيه هذه الأم «جامعة الحناء» رقصا يشبه حركات نائحات الجنائز في العصور الخالية.
وقد أتقن المخرج يوسف البلوشي توظيف الموروث التقليدي العماني والإنساني عموما توظيفا فنيا باعتماد تقنيات المسرح الحديث، سواء على صعيد تأمين تناسق الإضاءة والسينوغرافيا والمشاهد والأزياء، أو على صعيد انسجام الأحداث الحركية والاحداث النفسية التي عاشها الشخوص طوال العرض، وهو ما جعل من العمل أثرا فنيا بديعا ينهل من التراث الاستيتيقي ليحلق في رحاب المسرح الحديث في حالة تناغم بديع دون نكران الموروث التقليدي العماني.
كانت السينوغرافيا ذات دلالات بصرية مبهرة من خلال اعتماد ديكور من تصميم أحمد بن عوض الجابري، وهو عبارة عن هيكل سفينة بخلفية بصرية ضوئية يتوسطها شراع مضيء أشبه بعمود صلب شهد عذابات أهالي حقل الحناء، وكانت الأزياء أصيلة تنتمي إلى عالم الشخصيات لتساعد على فهم جوهر كل شخصية، وتفك رموزها للمستقبل، وهو ما أمّن جمالية كل المشاهد إلى درجة أن كل لوحة من لوحات المسرحية كانت بمثابة لوحة فنية تشكيلية توحي بثراء المخزون التراثي العماني، وبلمسة فنية معاصرة.
كما نجح البلوشي في جعل المسرح منبرا ينتصر لمبادىء الوطنية والوفاء للوطن والأهل ونبذ العمالة والمصلحة الشخصية، وإبراز عواقب الخيانة الوطنية لصالح الغرباء.
«مدق الحناء» تراجيديا تنتهي بفناء الخائن بعد قصة عذاب مرة مع الضمير لأن «النهاية التراجيدية خير من تراجيديا بلا نهاية»، وفي تلك النهاية التراجيدية يتطهر البطل من ذنوبه فيقوم بعملية «كاتارسيس» على المستوى المعنوي فيجلد ذاته جلدا داميا، وعلى المستوى الجسدي يسرّع عملية تآكل جسده وطحن يده في مدق الحناء العملاق ليفنى كل جسده، وفي تلك اللحظات المؤثرة كشف الممثل طاقة تمثيلية كبرى حققت تماهي المشاهد مع العرض.
جدلية الخير والشر
وتبرز جدلية الخير والشر واضحة في هذه المسرحية فيكون الصراع الدرامي مبنيا على صراع أهالي حقل الحناء مع الدكتاتور الدخيل رسلان وعميله «هجرس».. إنه الصراع الأزلي بين قوى الخير وقوى الشر.
ويستفز هذا العمل المسرحي عقل المتقبل حين يطرح السؤال: كيف يكون الخلاص حينما يعم ظلم الدخيل المدينة؟ ومن ينهي احلام المستعمر إذا كان من يساعده متخفيا في ثوب الصديق؟ وكيف نناضل للحفاظ على الهوية الوطنية إذا تسلل الخائن من أسوار المدينة؟
ملهاة ومأساة
ولم يغب النفس الكوميدي عن العرض من خلال تدخلات شاب سكير يقدم صورة كاركاتورية عن رسلان الطاغية محاولا إقناع أهالي المدينة بأنه من يحكم المكان وكأنه مجنون المدينة الناطق عبثا بالمسكوت عنه، ومثّلت إضافات ذلك الشاب متنفسا جيدا للمشاهد حتى ننجو ولو مؤقتا من وجع المأساة التي عاشها سكان حقل الحناء وبشاعة نهاية «هجرس» ووجع أمه بعد موته، فكانت الملهاة تعويضا نفسيا جيدا عن آثار المأساة التي عاشها الجمهور بكل تفاصيلها خلال العرض، وتماهى مع أبطالها نظرا لتماسك الحبكة الدرامية للعمل وجودة الأداء التمثيلي لكل من شارك في العمل، ونجاح الطاقم التقني في تأمين فرجة مسرحية مبهرة باستغلال التراث الشعبي العماني استغلالا فنيا راوح بين حداثة الشكل التقني والفني وأصالة المضمون والصورة، واعتماد موسيقى حية وأغان ذات طابع شعبي شكلت هوية العرض وميّزته.