الفني
التشكيلي محمد فاضل يستعد لمفاجأة من العيار الثقيل: كنت بَحَّارًا كثير التأمل
منذ بواكير حياته دأب على التأمل في الملكوت والنظر في الأشياء عميقا. برفقة والده البحار اكتشف أسرار المحيطات وألوان أحجارها وسرق دهشتها صبيا يافعا. كانت تلتمع في عينه أشعة الصباح على صفحة المياه ويستهويه بريق المحار وألوان الأعماق ولألأة النجوم في المساء. هذا البحّار أبحر لاحقا في ذاكرة الشعر العربي ومعلقاته العظيمة، ليصوغ منها معلقات فنية موازية. وغاص في تجليات الشعر الصوفي مسكونا بالشطح، سالكا فضاءات الوجد ومنعرجات الدهشة، ينسج منها أعمالا إبداعية تفيض بالنور والجمال.
إنه الفنان التشكيلي والحروفي محمد فاضل الحسني، أحد رواد الفن التشكيلي في السلطنة. هو تجربة فنية غنية وذاكرة خصبة، ومنجز إبداعي كبير. «التكوين» التقته في هذا الحوار الذي يفتح فيه قلبه ويبوح بمشاعره ويتحدث عن ذكرياته وأحلامه وأعماله ورفاق دربه من الرعيل الأول من الفنانين.
حوار: التكوين
فريق فني وطني
لكل فنان خصوصية إبداعية متفردة تميزه عن غيره. كيف سعيت منذ البداية لشق طريقك الخاص وبلورة رؤاك الفنية في مشروع إبداعي؟
بداياتي في الحركة التشكيلية كانت نشطة جدًا وتتسم بالتفاؤل والإرادة. فقد وجدت عند التحاقي بالحــــركة التشكيلية الفنية مجموعة من الفنانين المؤسسين مثل أنور سونيا والمرحــوم أيوب ملنــج ورابحة محمود ومحمد الصــايغ وحسين عبيد وسعـود الحنيني وغيرهـم كثير. بدأنا بداية فاعلة، وكانت مجمـوعة متـألقة، وكان العمل يأخذ طابعا جمـاعيا ويتميز بروح المحبــة والمنــافسة، وشـــدة الحفــــــاظ علـــــى الانتقـــــاء الجيد من خلال الإنتــاج والبحث عن التقنيــات الجديدة التي تســاعد التجارب. لقد شكلنــا ما يشبه الفريق الوطني الذي ننافس به حــركات التشكيل في الخليج والعالم العربي. وقد عملنـا بكل طاقتنا وقدمنـا منتوجا رائعا شهد له زمـلاؤنا من دول الخليـج، وكان ذلك مؤشرا قويا ومســـاعدا في نشر وتطــوير الفنـــون التشكيليــــة العمــــانية والتعريف بها.
واظبنا علــى إقامـة المعــــارض الفنية بشكل مكثف لأجل ترسيخ الركائز الأساسيــة للحركــة التشكيليــــة العمانية، وهي الانتشار عبر تقديم أعمال ذات جودة عاليـة يشهد لها العـــالم. وبعد فترة من إقامة المعارض الجماعية تلقيت دعوة من مملكة السويد لإقامة معرض شخصي ضم (37) لوحة محملة بعبق الإرث العماني. وبذلك كنت أول فنان عماني يقيم معرضا شخصيا في دولة أوروبية والدول الاسكندنافية. كما كنت أول فنــــان عماني عربي يحصل على عضوية عالمية في جمعية ليوناردو دافنشي عام 1995، وكذلك دبلوم إشادة بجودة الأعمال المعروضة، التي كانت ترتقي للعرض في صالات العالم.
ثمة حضور لمواطن الطفولة وأماكن الصبا في أعمالك. كيف تحولت تلك الأماكن بذكرياتها وملامحها إلى منجز إبداعي فني؟
الخصوصية والتفرد تأتي مع البحث والتعمق فيه وبعد اكتمــال الصــــورة الصحيحة للإدراك. الفنان أشبه بالنحلة يبحث بين الزهور في البســاتين ويأتي بخلاصــة الرحيق الحلو الطيب. لقد بحثت في الإرث العظيــم لهذا الوطن الغــالي لأستلهم من الرموز التــاريخيه والتراثيــة ما يعمق القيم الإبداعية في لوحــاتي، فكــانت النتيجـة هذا الـرحيــق من التفرد في التجــربة. التراث العمــــاني غني وملهم للفنان الذي يمكنه بوعيه أن ينتقي عبر تناوله النفي ما يشاء من الكم الهائل من الإرث المحفوظ كالمخطوطــات في علوم الفلك والبحــار والفقه وغيرها من طلاسم التراث ومن البيئة كالأخشاب والأوراق والعطريات وغيرها من الأنواع المتعددة. هكذا خرجت بهذا المزيج من الأعمال الفنية متعددة الاتجاهات بخامات وتقنيات عالية، شهد لها النقاد والمهتمون.
تتداخل في أعمالك تكوينات جمالية مختلفة، تمزج بين الحروفيات والتراث والحياة الاجتماعية. ما الذي يضيفه كل ذلك إلى عمق العمل الفني وجمالياته؟
نهاية السبعينات، كنت أرتاد البحر، وكنت بَحَّارًا بدرجة امتياز، وكنت كثير التأمـــل، تستهويني الألوان في زرقة أمواج البحر والمرجان والشعاب والمحار والحجارة والأسماك. كنت حينها مرافقًا لمعلمي الأول والدي يرحمــه الله. وبعدهــا نمَتْ لدي بوادر من الأفكار بدأت تتضــح شيئــًا فشيئـــًا، وتراكمت هذه الأفكار وأخذ الهاجس يتشكل وفق إرهاصات رؤيوية بصرية حتى وصلت إلى مرحلة الإدراك والوعي بالأشياء ووضوح الصورة، أخذت الخيوط الأولى تبرز عبر الكتابة بالخط العربي، رغم ندرة المصادر في ذلك الوقت، إلا أني مـــارست رسم خط اللوحـــــات الأولى فكانت هي التحـــول فيما بعد للإبداع ومواصلة السير من منجز إلى آخر حتى الوصول إلى الصورة الأشمل والآفاق الأوسع.
هي محطــــات
كثيرا ما تشتغل على مشاريع متكاملة مثل (أفلاك) و(سفينة النهضة) وغيرها. ما الذي يدفع الفنان إلى خيار المشاريع بدلا من اللوحة المفردة؟
دائما ما تستهويني المساحات الكبيرة وتعطيني رؤية أوسـع وأشمــل. في أوج عطائي وقبل نهاية التسعينات فكرت في مشروع كتـابة المعلقــات السبـع. وحين تضع هذه الفكرة في خاطــرك وتفكر كيــف تخرجـــــها فنيا على نحو يليق بهيبة المنجز الذي يجسد تراث أمة وتاريخها فسوف تدرك أنه ليس بالأمر الهين أن تضعــه في مساحة نصف متر لتقول عنها إنها معلقــــة عنترة بن شـداد أو طرفــة بن العبد، وإنما عليك أن تسعى لتعطي كل شيء حقه. لقد كتبت المعلقات السبع كاملة في لوحات ما بين ثلاثة إلى أربعة أمتار مشكلة استحضارا للتاريخ العظيم ومدعومة بخامات من البيئة وأخشاب السفن العمانية القديمة. ثم كتبت معلقة كبيرة فيهــــا شعراء الصوفية كعبدالقادر الجيلاني وأحمد البدوي وجلال الدين الرومي وابن عربي وسلطان العاشقين وابن الفارض، وغيرهــــم. وقد نـــالت هذه الأعمـــال إشادات نقاد وأساتذة، وحصلت على جـــوائز كبرى.
وفي النهـــاية هي محطــــات فــي حيــــاة الإنســان الفنــان، إذ كيف يعبر عن مـا يدور في خلده وخــاطره. مثــلًا عندمــا فكرت في رســــم اللوحــة الأسطـــورة «صــائد الأحـــلام» استحضرت الخيــال الواسـع وفكرت مليئًّا لإيجــاد تشــابه بين قوة الإنسان في الصحـــاري والرمـــال والحياة القــاسية، وحياتنا حاليًا، فكان كائنا أسطوريا ضخــما يصطــاد أحـــلام النـــاس ويكثر من أوجاعهــــم والضغوطات النفسية، وتزداد ضائقة الفتى التي يعيشها تحت الاختنـــاقات ويفترش الذل والقنوط الخ… فكانت النتيجة إخراج صائد الأحـــلام للوجود، وشــاركت بها في المــعرض السنـــوي للفنانين وحظيت بإعجاب المتــابعين ولجنــة التحكيـــم وكرمت بالفوز بالجــائزة الكبرى عام 1999م على مستـــــوى السلطنة، ثم عرضت في بينالي القــاهرة وأعجب بهــا أحد المهتمين من دولة قطـر وقام باقتنائها.
وهناك قصة لمشروع «الأفلاك» و»سفينة النهضة» أو «أم العينين»، كل لها قصة أخرى من قصص وروايات تاريخية. وفي القريب العاجل بإذن الله سيكون الإنجاز الوطني الرائع، وهو عرض «أم العينين» المخطوطة العملاقة التي تتحدث عن تاريخ ومنجزات النهضة العمانية، عن الأرض، الوطن، السلطان والإنسان العماني .
تتوزع تجربتك بين عدة فضاءات إبداعية كالرسم والحروفيات والتصوير الفوتوغرافي. حدثنا عن هذه الفضاءات وإبحارك فيها؟
الرسم، الخط، التصوير، جميعا نتاج قراءات مكثفة وتجــارب ومشاهدات حية، ومراحــل تعبر عن الحياة الإنسانية والاجتماعية وتتنــاول مادتها من الإرث والتاريخ والتراث الكثير. كانت بداياتي بالخط العربي ثم رسمت لنفسي خطا يتناول الحروفية الشــاملة في التكوينات واستلهــام الحرف في رسائل ومواضيع إنسانيــة برؤية بصرية تحمل معاني ومفردات تعبيرية، ثم جاءت التجربـة التصويريــة ممثلة في رسم أشـــكال هــــواجس الإنســــــان والمرأة الحبلى، ذات القنــــاع، الجنين، الطيــــور، الأسمــــاك، الحيـوانـــــات ورسومــات لها دلالات ومضامين مختلفة في الطرح. أما التجربة الثالثة فتمثلت في استلهـــام أشهر المخطوطـــــات والرموز التراثية والقصــائد الوطنية لشــــعراء عمـــان والعـــــالم العربــي جرى تنفيذها وفق رؤية حديثة وبخـــامــات من الطبيعــــــة البكر والبيئة الغنية.
أعمالك مشحونة بالرموز ذات الدلالات العميقة، التي تتطلب قراءات تأويلية، وتفترض متلقيا واعيا. كيف ترى علاقة المتلقين بالأعمال الفنية المعقدة والمركبة؟
ما يميز أعمالي قراءتها بطريقة واحدة فقط وهو التذوق الجمالي، أما من أراد القراءة العميقة فإنه سيراها مشحونة ومعقدة وفيها الكثير من المعاني والمدلولات، وهذا النوع من المتلقي هو الذي يفكر في العمل قبل الحكــم عليه، لأنه متذوق نوعي ويود القراءة والتأمــل العميق، وليس النظرة البصرية الخاطفة.
أعمالي بهــا الكثير من الجماليات تغلفها طبقات لونية جميلة ولطيفة. وقد اعتدت على نقل أبيات شعرية بيضاء ثم أمحورها بتكوينات أخرى من خلال انبساط الحروف في وسط اللوحة. مثلًا تقرأ في كتاب أبياتًا مثل:
تعشقت نور الله وهو بصيرتي
وقد وضــح البرهان من آية الكرسي
ماذا لو جعلنا هذا البيت في لوحة بها الضوء ساطعا كنور القمر وهيجان من الألوان الساطعة كلها تعبر عن التجلي في السماء الواسعة وقد امتزجت بها مشاعر القلب واختلفت تأويلاتها وتعددت قراءاتها عند المتلقي.
أصدرت وزارة التراث والثقافة كتابا بعنوان(صائد الأحلام) يوثق تجربتك الفنية. ما قيمة مثل هذه الإصدارات بالنسبة للفنان؟
الإصـدارات التي تصدر بين الحين والآخــر لهــا الكثير من الأهميـة، إذ تحفظ ولو جزءًا بسيطا من أعمـالنا للأجيال القادمة، لاسيما وأن معظم اللوحـات قد تاهت في الخــارج نظرا لعدم التوثيق، حيث عرضت وجرى اقتناؤها من قبل متــاحف وصــالات واقتنـــاء شخصي، ولم نعد نعرف عنهـــا شيئا.
وهذا الإصــدار الذي قـامت وزارة التراث والثقافة مشـكــورة بإصداره يسعى لتوثيق التجــربة بدايـــة من خلال ثـــلاث مراحـــل فنية عرفني من خـــلالها الجمـــهور والمـــــهتمون والمتــابعون للحركة التشكيـــلية الفنية العمـــانية. وتتفـــاوت التجارب في التنـــاول والتكوين والبحث، وثمة تجدد بينها. التجــربة الأولــى كانت بداية تــأسيس التجربة الحروفية في السلطنـــة، حيث أسست مع زميلــي الفنان الخـلوق محمد الصــــايغ الحروفية، ولكل واحد منا أسلوبه الخاص، وانتشرت بعد ذلك، حيث بدأ الكثير من الفنانين يتناولون هذه التجربة، وبالتالي فإن هذه الإصدارات لها أهمية بالغة.
كل يغرد
العملية الإبداعية تتطلب مواكبة نقدية متخصصة لرصد تحولاتها وتقييم مساراتها وتجاربها. أين ذلك من التجربة العمانية؟ وهل يتقبل الفنان العماني النقد لأعماله؟
النقد مفقود، وإذا لم يتقبل الفنــــان النقد البناء لتصحيح مســـاره فلن يكون فنانا متجددا. إنني أرى النقد منعدما تمامًا في الحركة التشكيلية العمانية، لهذا تجد الصالح اختلط مع الطالــح وكل يغرد في وادٍيه. ينبغي على الناقد أن يطرح الأسئلة ويعالج القضايا بنظرة راقيــة وعلميــة بعيـــدًا عن الدوافــع الشخصيــة، وللأسف الشديد لا توجد حركة نقدية لدينا، الأمر الذى يسهم في إرباك مسيرة الحركة التشكيلية ويعيق تقدمها.
بعد جيلكم شهدت الساحة العمانية بروز تيارات وأجيال مختلفة. ما تقييمك للمشهد التشكيلي العماني حاليا؟
المشهد التشكيلي العماني حالياَ يشهد ظهور تيارات حديثة، وجيل سريع الانتشار يتميز بالكم الهائل من الأعمــال. من الفنانين من يسهم في تحقيق نجاحات للمشــهد التشكيلــي العمانـي والارتقاء به من خلال تطوير التجــارب والتقنيات والمتاجات. وهذا الشيء يساعد على خلق أجواء تنافسية ويساعد على حيوية الحركة وإثبات جدارتها في المحافل الدولية والإقليمية. وهناك فنانون آخرين يحـــاولون الاحتكاك بنظرائهم في الخــــارج من خلال مشاركاتهم في حلقات عالميـــة وملتقيات وأحداث مهمة تقام خـــارجيًا. وهناك من هو مكمـــل للعدد فقط، وأنا بدوري أشجع وأدعم الجميع وأقدم النصيحــة وأعطي الرأي بكل حيادية.
أخيرا.. ما هي برامجك الجديدة واستعداداتك وتحضيراتك المستقبلية؟
جرت عادتي أن أقوم بإعداد برنامج عمل مع بداية العام، بعضها ينفذ والبعض الآخر يؤجل لأسباب مختلفة. ومــع بداية هذا العام لدي مفــاجأة فنية من العيـار الثقيـل، تتمثل في إنجــاز وطني يمثل أهمية كبرى بالنسبة لي.