الفني
فيلم «الرحلة» لمحمّد الدرّاجي… تراجيديا عراقيّة في محطّة قطارٍ لم يصل
لو ألقينا نظرة فاحصة على الأفلام السينمائيّة العراقيّة التي أنتجت بعد 2003م، للاحظنا أنّها نهلت مادّتها من الحياة اليوميّة العراقيّة، بكلّ ملابساتها، وصراعاتها، هذه المادّة وجدت لها قبولا نقديّا، وإقبالا جماهيريا، واهتماما من قبل وسائل الإعلام، خلال مشاركاتها في المهرجانات السينمائيّة الدوليّة، كفيلم» كرنتينة» لعدي رشيد، والفيلمين القصيرين «ميسي بغداد» لسهيم عمر خليفة، و«فايروس» لجمال أمين، وأفلام المخرج محمد الدراجي، وآخرها فيلم «الرحلة»، وهو واحد من الأفلام التي سلّطت الضوء على واحدة من الأزمات التي يتعرّض لها الفرد العراقي، بعد فقدان الأمن، والعمليات الانتحاريّة التي صار المدنيّون الأبرياء ضحايا لها.
عبدالرزّاق الربيعي
في هذا الفيلم جعل الدراجي الذي قدّم أربعة أفلام روائيّة طويلة قبل «رحلته» هذه، هي «أحلام»، و«ابن بابل»، و«بين ذراعي أمي»، و«تحت رمال بابل»، من خبر يبدو عاديّا لمن يقرأه فيلما روائيّا طويلا، والخبر هو أنّ فتاة دخلت أحد مراكز الشرطة في محافظة ديالى، لتبلغ رجال الأمن أنّها ترتدي حزاما ناسفا، وقد كُلّفت بواجب من قبل جماعات ارهابيّة هو القيام بعمليّة انتحارية، سيكون ضحيّتها عددا من الأبرياء المدنيين، وهذا ما جعلها تتراجع عن القيام بذلك، في اللحظات الأخيرة، فاستلّ الدرّاجي هذا الخبر، وقام بكتابة سيناريو الفيلم، بالاشتراك مع المنتجة البريطانية إيزابيل ستيد، وهو انتاج مشترك بين العراق، وبريطانيا، وفرنسا، وهولندا، وجرى عرضه في دور العرض السينمائية في بغداد والمحافظات.
وقد جعل أحداث الفيلم، (المحطّة العالميّة)، كما تسمّى محليّا في العراق، أو محطّة بغداد المركزيّة للسكك الحديد التي تضجُّ بحركة الحياة، مركّزا لها، فذكّرنا بأفلام جعلت من محطات القطارات مسرحا لها كـ»الباب الحديد» ليوسف شاهين، لكني وجدت الفيلم الأقرب لها الفيلم، الفيلم المصري»كباريه» للمخرج سامح عبد العزيز، وبطولة صلاح عبدالله وخالد الصاوي وفتحي عبدالوهاب الذي أدّى دور شعلان المتطرف دينيا الذي دخل الكباريه ليفجّرها بحزام ناسف، ولكنّه يفشل في تفجيره، لحصول عطل في الصاعق، وخلال تواجده داخل (الكباريه) يحصل تحوّل في شخصيته، وهذا ما جرى لـ «سارة» الانتحارية في فيلم «الرحلة» التي تدخل المحطة صباح عيد الأضحى (30/12/2006)، (وهو تاريخ اليوم الذي جرى خلاله تنفيذ حكم الإعدام بصدام حسين)، مع ارتفاع تكبيرات العيد من مجد قريب، تمشي بصمت، وحذر، مخفية حزامها الناسف، تقوم بخلع حجابها، لكي لا تثير الشكوك، ثمّ تواصل سيرها بخطى مبرمجة، وعلى وجهها ترتسم ملامح قاسية، فتبدو «سارة» أقرب ما تكون لإنسان آلي، ساعية لهدف واحد هو تفجير نفسها داخل المحطة المليئة بالجنود، والشرطة، والمارينز، وذلك خلال الاحتفال الرسمي بإعادة افتتاحها، ويكون الجميع في حالة استنفار كونها ستستقبل مسؤولين على متن القطار القادم من البصرة الذي تأخّر عن موعده، وتكون الجهات التي أرسلتها قد أقنعتها أنّها بهذا العمل ستطهّر المكان، كما تصرّح لاحقا لـ»سلام» اللص المحترف، الذي يبيع الأطراف الصناعية، ويتاجر بممنوعات كثيرة.
وقد عكست المفردات البذيئة التي تلفّظ بها في المشهد الأوّل عن طبيعة شخصيّته ذات التعليم المتواضع، والتربية «الزقاقيّة»، وحين حاول التحرّش بـ»سارة»، وتمادى معها، كشفتْ له عن مفجّر الحزام الناسف الملتفّ حول خصرها، فيصبح أسيرا لديها، وتزداد سيطرتها عليه عندما تضع في جيبه قنبلة، فتدفعه أمامها، وتهدّد بنسفه، ويصبح، يسير منقادا لها، بلا حول، ولا قوّة، فتحشره داخل أحد المخازن المهجورة في المحطة، وتتّصل تليفونيا بمن يخبرها بضرورة ألا تتركه يذهب، لأنّه صار يشكّل خطرا عليها لمعرفته بحقيقة أمرها، لكنّها تتردّد في إيذائه، رغم قسوتها معه، وشيئا، فشيئا تتنازعها مشاعر متضاربة، خصوصا بعد أن يحدثها عن الحياة، وتجنح نحو الحياة عندما تلقي امرأة منقّبة تطاردها الشرطة، حقيبة صغيرة في يد «سلام»، وتهرب، ويجد في الحقيبة طفلة رضيعة، ويبدأ التحول، أي الكشف عن الوجه الإنساني لسارة، وإلى جانبهما توجد خطوط أخرى منها، الموسيقي الذي قضى 22 عاما وراء القضبان، (أدّى الدور الموسيقار علي الخصّاف في أوّل ظهور له كممثّل مع فرقته الموسيقيّة لإضفاء واقعيّة على الحدث)، ولا يجد قدرة على الزواج، ويقف عاجزا أمام طلب خطيبته حسم أمره، بائعة الورد الصغيرة «منى» التي فقدت والديها، خلال القصف، ويخفي هذا الخبر عنها شقيقها «عمر» صباغ الأحذية الذي يلتقي بـ «سارة» حاملا خاتم الزواج الذي أرسله إليها شخص ما لكنها تلقي به، إشارة رمزية الى فكّ ارتباطها بماض مؤلم، وعصابة الأطفال التي تستحوذ على ما تكسبه «منى»، وشقيقها «عمر»، إشارة للفلتان الأمني، وعلى جانب من المحطة، تقف فتاة شابّة ترتدي الأبيض، تجبرها أمها على تزويجها من رجل لا تحبه، وهناك رجل يرتدي الملابس العسكرية البالية، من خلال أحاديثه، وهيئته يتّضح أنّه فقد عقله. وعلى أحد الكراسي يجلس شيخ قبالة جثمان ابنه الملفوف بالعلم العراقي الذي قتل في تفجير انتحاري يريد الذهاب