الفني
المصوغات الفضية… حرفة وفن
تعد البيئة هي المصدر الأول والملهم للفنان، تدفع العقل إلى التفكير والتجريب لإنتاج روائع خلابة تحيَر العقل. لا يقتصر الفن على اللوحات والمنحوتات، فكل إنتاج يقدمه الإنسان ويحوي على فكرة إبداعية يعد فناً. و صناعة الحلي أحد هذه الفنونً الإبداعية المتميزة التي عرفها البشر قديماً قدم الإنسان نفسه، فلا يخلو متحف تاريخي من مجوهرات وحلي صنعت من عدة خامات، وذلك يدل على ما مرت به هذه الحرفة من مراحل متطورة تبعاً لما كان يتوافر لدى الصانع من خامات وأدوات وتقنيات تدرجت من البدائية حتى المعقدة منها. ولم تقتصر الصنعة على حلي النساء، بل تعدتها إلى صناعة التيجان والقلائد وحلي الأمراء. كذلك الأواني والأدوات الذهبية والأسلحة، (زكي،1964 ) .
د/ سميرة اليعقوبية
دكتوراه في المناهج والتدريس
تخصص فنون تشكيلية
لو عددنا العناصر التي تمت إضافتها في الحلي التراثية لن نتردد في وصفها بالغنى والثراء من الزخم الذي تمتاز به. ولو أمعنا النظر في كل قطعة أضيف إليها خامة بيئية لاستشعرنا أنها لم تأت من فراغ بل جاءت مرتبطة بمعتقد أو رواية طوقت هذه الحلية بخصوصية وجمال فريد. فعلى سبيل المثال توجد العقود التي يتدلى منها قطع المرجان التي تعد وسيلة لتسكين الأمراض كالصداع وأمراض الكبد. وقد استخدم الزئبق لدى العمانيين في فترة السبعينات بوضعه في حاويات فضية لحمله بكميات صغيرة أيضا لرد الشر عن الأطفال. وُيلاحظ عامة أن ارتداء التمائم يعم بين النساء والأطفال أكثر من الرجال لاعتقادهم بأنهم أضعف من أن يتمكنوا من مقاومة الشر، فيتم تقليد هذه الحلي للأطفال حتى سن الخامسة، (Hawley, 2000).
وهنا أستعرض عدد من الحلي العُماني ذاي الطابع التراثي الأصيل. تجمع هذه الكنوز القيمة معدن الفضة والخامات البيئية التي امتزجت في قطعة واحدة وكأنها لوحة فنية أبدعها الفنان في لحظة إلهامية قدمت لنا تحفاً فنيةً رائعة. توجد أنواع عديدة من الحلي الجميلة في سلطنة عُمان جميعها لها خصوصية متفردة تشد انتباهنا.
انتقيت من هذه الروائع (عقد) وُلِد في صحراء عُمان وأَطلق عليه أهل البادية اسم (المنثورة) الصورة رقم (1)، وهي موجودة في منطقة الظاهرة في السلطنة، وقد كانت ترتديها المرأة في يوم عرسها. يبلغ طولها 18 إنش وعرضها 17 انش، وتزن كيلوغراماً (Forster, 2000)، والمنثورة عبارة عن ثلاثة صفوف أو أربعة من الخرز الفضي جُمعت في خيط قطني سميك، أول ثلاثة صفوف عبارة عن خرزات اسطوانية متشابهة تنتهي كل خرزة منها بحبيبات متراصة بجانب بعضها البعض تحيط بطرفي الخرزة، أما الصف الثالث فهو يختلف من حيث الشكل، إنه عبارة عن مجموعة من الخرزات التي تشبه شكل القمعين اللذين جُمِع طرفهما ليشكلا وحدة واحدة. ويخرج من كل خرزة حلقة تتدلى منها قطع من الفضة المترابطة مع بعضها بواسطة أسلاك دائرية من الفضة شبهتها فورستر في كتابها بالسيجار.
جمالية هذا العقد تكمن في تكرار وحدات من الكور الفضية ذات الأحجام المختلفة وحلقات الفضة التي كانت طريقة لربط القطع بعضها ببعض، وكعمل فني متكامل أجد فيها أسطحاً متناغمة بين الأسطح الملساء الناعمة والأسطح المدببة أو (الخشنة) بسبب عدد الحبيبات التي تناثرت في أنحاء هذا العقد الخلاب. قد تراها (فورستر) أعقاب سيجار تتدلى من العقد إلا أنني أتخيلها كأصابع الفتاة الحسناء التي نقشت بنقوش الحناء ليلة عرسها.
وللخلاخل حكايات ممتعة فقد تمت صياغتها في عُمان بأشكالٍ مختلفاً تماماً عما اعتدنا على رؤيته الآن، وذلك من ناحية الحجم والقطع المصنوعة منها والزخارف على سطحها والخامة التي أضيفت داخلها.
إن ولاية نزوى تختص بصياغة هذا النوع من الحلي الفضي أُطلق عليه اسم (نطل) وكذلك في ولاية الرستاق أطلق عليه (حجل)، ويعد هذا النوع من الحلي قطعة خاصة ترتديها الفتاة حين تبلغ سن الرشد وتستمر في ارتدائها حتى فترة الزواج. إذ تصبح الحلية جزءاً من المهر.
اخترت من بين هذه الخلاخل التراثية خلخال أطلق عليه اسم (الحبوس) وهو نوع من الخلاخيل التي اشتهرت به السلطنة، ويعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وهو من أجمل الحلي العُمانية التي تشبه قطعة نسجية تمازجت فيها خامة الفضة التي أتت على شكل شرائح من المعينات الصغيرة، وخامة المرجان في هيئة خرزات برتقالية وحمراء وأخرى باللون الأخضر والمثبتة على خيوط قطنية سميكة تُحكَمُ نهايتها بواسطة دبوس سميك، وتتدلى منها أجراس صغيرة متشابكة تخرج ايقاعا صاخبا مع كل خطوة تخطوها الفتاة حين ترتديها صورة (2).
صورة (3) قطعة توليفية متميزة رائعة التصميم جمعت بين الفضة والقماش والجلد، حلية ورداء في ذات الوقت ترتديه المرأة على رأسها كزينة للشعر وقد وُلّفَ عليه العديد من الخرز الفضي رُصّع بشكل أفقي على مقدمة (الكمة) أو قبعة الرأس كما يطلق عليها في المنطقة الجبلية في محافظة (ظُفار) وبين هذه الصفوف توجد حلقات متشابكة من الفضة، وتتصل بها مجموعة من الشرائح الدائرية الشكل والتي رصت فوق بعضها، والجزء الخلفي رصع بعدد من الخرز الفضي الذي نظم بشكل طولي بحيث ينتهي بخيوط من الجلد المتشابك خرجت من خلال اسطوانات فضية. ونجد في الخلف حزام نسجي مستطيل تتدلى منه مجموعة من الكور والعملات المعدنية وخيوط الصوف، أما من الأمام فنرى برقعاً ثبت بالقطعة وتكوَن أيضا من نسيج الصوف والشرائح الفضية المعلقة من أطرافه .
ومن الأقراط الجميلة التي استطعت الوصول إليها في السوق القديم في (مطرح) الأقراط الظفارية من جنوب عُمان. هي منظومة من اسطوانات متراصة كلما نظرت إليها خيل إلي بأنها آلة موسيقية اعتدنا العزف عليها في حصص الموسيقى والطابور المدرسي يطلق عليها اسم (اكسليفون).
وهذه الأقراط عبارة عن شرائح فضية متراصة بجانب بعضها البعض، ايقاعاته تكاد تتكرر على مسمع مني كلما شاهدت هذه الأقراط وفضولي يدفعني لتناول عصي الإكسليفون للطرق على اسطواناتها، فاي نغمات سأسمع؟ يبلغ مقاسها 3.75 سم. ثبتت باستخدام خيوط الصوف وأسلاك الفضة وتدلت منها كور فضية وسلاسل تمسك شرائح على هيئة شوكة. الصور (4،5).
بيئتنا العُمانية مصدر إلهام ومنجم خامات تدفع العقل إلى التفكير والإبداع وإنتاج فن لا يقيده إطار ذهبي مزخرف أو رف رخامي . فكل فكرة تحتاج إلى عملية استحضار لتصبح فناً إبداعياً تبنى لبناتها الأولى من التراث، لتتألق في صورة جديدة ذات دلالات غير مطروحة مسبقاً. والحلي زينة وجمال في كل عصر وعمل فني يستوقف المشاهد دقة صنعها ومهارة صُواّغها، ويرن في آذانه ايقاعها المتناغم بين المزيج المذهل في المعدن والأحجار، والتنوع البعيد عن الرتابة في مساحات السطوح الملساء والخشنة. فليكن كل منتج بذل فيه صانعه جهد طويل عمل فني يستوقفنا لتأمل جمالياته بدءاً من الخط وانتهاءاً بالشكل العام.