الثقافي

بين قراءة وكتابة.. أمضي “أقصّ الأثر”

محمد بن سيف الرحبي

قارئ وكاتب..

يتبادلان الأدوار داخلي، مرة أراني ممسكا بكتاب لأقرأه، وحينا على لوحة المفاتيح لأكتبه، وهو الحامل لذات العنوان: (كتاب)، كونه متشكلا من فعل الكتابة، حرف إثر حرف، وكلمة تتبع سابقتها، وسطر يخفض رأسه تحت آخر، وهكذا الجملة تتماسك قدر مستطاعها، أو ربما قدر مستطاعي، ويبقى المعنى الناقص ما تسعى الكلمات بين يديه، لعله يكتمل، واجمل المعاني ما يلوح وراء الكلمات، ما يحتاج لقاريء أن يتبيّنه ليشعر أنه مبدع آخر أمام فتنة النص.

تبدو المعادلة متاحة، في نصفها على الأقل: كل كاتب قارئ، ولكن ليس كل قارئ كاتبًا.. بالضرورة.

كما أنه ليست كل كتابة أدبا، ولكن كل أدب من البديهيّ أن يكون كتابة، فالتاريخ البشري تجاوز ما عداها ليكتشفها، كفعل إنساني تعبيري، عبر النقوش أولا، ثم جاءت الحروف بخاصية الأمكنة التي تعيش فيها، فتبقي النسّاخين ساهرين محنيي الظهور يرسمونها في قراطيسهم، أو من أوكل إليهم الأمر في نسخ كتاب من كتاب، ثم جاء جوتنبرغ باختراعه الذي جعل الكتابة (والقراءة حسب ترابط الأشياء أيضا) متاحة بما كان يشبه الخيال لدى الأقوام السابقة، وفي عصرنا فإن حمل ألف كتاب لا يحتاج إلى أكثر من عصا ذاكرة (أو ما يسمى بالفلاش) ويمكن وضع آلاف الكتب في حاسوب صغير، يكون مختزلا لمكتبات كبيرة، ومن يمكنه التخيل: أن تزرع شريحة الكتب التي نريدها في أدمغتنا فلا حاجة لقضاء ساعات القراءة يوميا، حيث المسح السريع في المخ حاضرا، وللحظات.

سأتخيل أكثر: سينفجر المخ حتما، كعضلة رياضي تم الضغط عليها فوق طاقتها، فتمزقت، وانتهى أمره.

في عصرنا الحالي لم نعد نشتكي من قلة الكتب، ولا قلة الكتّاب، فهم على درجة من الكثرة تفوق قدرتنا على الاستيعاب، وربما الفرز لدى الكثيرين ممن يبحثون عن الكتاب الجيد، والكاتب الجيد، ليحظى المجتمع بقرّاء جيدين، فتضاف معرفتهم إلى مقوماته القادرة على الحراك الإيجابي والتقدم.

هل من بدايات لهذا الأدب المتشكل على أيدينا، سواء أكنا قراء نكتشف في الكتاب المزيد من الجمال، أو كتّابا نضيف ذلك؟ وما هي حدود معرفتنا للنقطة التي نقف عليها؟ وهل من الضروري أن نوجع أدمغتنا بهذه الأسئلة التي لن تجمّل قصيدة بين أيدينا.. وهي الهابطة بإلهام خفي، أو يعمّق رواية تتداعى حكاياتها.. كما لو أننا نصف عالما يتشكل أمامنا، نوجده من عدم، نكذب أنه موجود، ونصدّق كذبتنا، وكلما جاءت اللغة بديعة أيقنّا أن الكذبة صارت متناهية الجمال؟. 

الكتابة الأدبية تأتي ضمن سياق بشري متواصل، مكتسب للتأثير عبر مراحله التاريخية المختلفة، فينا بعض من الألياذة وشيء من شكسبير ومن الخيام ومن الرومي، وبدهيّ أن نتشكل أيضا من المعلقات ومما قالته العرب قبل زمنها الجاهلي أو ما بعده ووصولا إلى زمننا هذا، يقول ألبرتو مانغويل “يعود تاريخ أدبنا إلى ما هو أبعد من البدايات التي تسمح بها ذاكرتنا، وأبعد – في المستقبل – من مدى ما يمكن لخيالنا إدراكه”، ولذلك فإن التفكير في البدايات لهذه الرحلة الأدبية أو تخيل المستقبل ما لا يمكن للخيال أن يحيط به، وفق رؤية مانغويل، لكن، وهنا تبدو العقدة، ماذا بوسعنا أن نكتب ما لم يكتب من قبل؟! وأن نطّلع على ما بلغ النضج فوق ما استطاعه سابقه، فلا نزهق الوقت فيما تم تخطّيه؟!.

تبدو الأسئلة في الأدب ملتبسة، لأنه حينما يعمل الخيال تتراجع حدود المنطق، فالعقل القادر على التخيّل لا يجازف بمنح المتخيل عقلانيته، بل يفتح أمامه الحدود الضيقة ليمضي مستكشفا، فربما يعود بما هو الأكثر إضافة وفائدة للبشرية، وهذا ما حدث في مراحل مختلفة من الحياة الإنسانية، تبدأ مخترعات العلم من الخيال، والتي ولدت على يد العقل في الأصل، ليمسك بها من جديد، ويحاورها على أنها يمكن خلقها واقعا، فتنتقل من تخيل محض إلى واقع حي، الطائرات وحرب النجوم والروبوتات كأبرز الأمثلة.

ذلك “قص” للأثر في منطقة مغلقة، وعميقة، وتبدو حصرية على من يجيد تبيّنها بمصابيح المعرفة المضاءة في كل ركن وزاوية من زوايا حياتهم، فلا يرون في القراءة فرصة لتضييع بعض الوقت، أو تكون هواية في “وقت الفراغ”…

أعود لأخطو في أثري، إلى جمال اللغة وهي تحيط خيوط الكلمات فتشكّل سجادة بها ما بها من تشكلات الحروف، فبالأدب نجتهد لنزيّن حياتنا، حين نكتب، أو حين نقرأ، فالقصيدة الجميلة تصنع لنا الفرحة بأن ثمة جمالا تحتويه، وحتى حين تلامس واقعا مريرا فإننا نرى في الكلمات تعزية، وكأنما الشاعر ينقل إلينا الإحساس بالتخفف من المكبوتات بقولها، وكلما كانت الكلمات أجمل كان تفاعلنا النفسي أفضل، فنتحول من فعل “القراءة” للقصيدة إلى فعل “الكتابة” كأنما نتشارك فيها مع الشاعر، وقد كتب ما في أعماقنا من مشاعر.

نجد ذلك التوق النفسي، أو الوقاية والعلاج، في سائر فنون وأشكال الكتابة الأدبية، في القصة والرواية كأبرز الفنون السردية، فتصنع لنا عبر حكايات الآخرين وحيواتهم عالما موازيا نعيش فيه لعدة ساعات أو أيام، تصنعه الكلمات، ليس كالذي نعيشه، أو أن هناك ما يعيشه الآخرون فلا يقارن بؤسه بما نحن عليه من أحزان نتخفف منها وقد رأينا الأشد.

وقد مضيت طويلا (أقصّ) أثري وراء القراءة والكتابة، على يميني كتاب أقرؤه، وعلى يساري (مسودّة) آخر أكتبه، لكن وراء اليمين ألف يمين، آلاف من الكتب تحيّرني كيف أهبها من الوقت ما يضيق به العمر، وخطواتي لم تعد تسابق نفسها كالسابق، فأثر الخطو محمود في تواصله، مذموم في انقطاعه، وفي كل كتاب أترقب الوصول إلى الصفحة الأخيرة، ريثما في ساعتي ما يكفي للبدء في الصفحة الأولى من التالي، أحب النهايات السعيدة، مع أن هناك من لا يحبذها، أشعر بها أعمق أثرا لإيجابيتها، بما للوردة الأخيرة من عبق تتركه في خاتمة طريق أشواكه مدمية للأرواح قبل الأجساد، لكني أحب أكثر الدهشة في النهاية، في خاتمة القصيدة أو سطر الحكاية، بعد أن أنبأنا المكتوب عن حماقات حدثت، كأنما حماقات البشر واحدة، تتغير فيها درجات الألوان، وربما مستوى التعبير عنها، فتكون الخاتمة نهاية لتلك الحماقات، وصفحة جديدة أمام الواقع ليتغير.. ولو قليلا.

بين دربين أمضي (أقصّ) الأثر، بحثا عن كنزي الخاص، الخطوات مرسومة بالحبر، الخارطة السرية التي تتناوب على الانكشاف والتخفّي، مبدع من يقرأ، ومبدع من يكتب، وتبقى صيرورة التاريخ دائمة في حركتها على إيقاع المعرفة المتوارثة حقبة إثر سابقة، حضارة تقوم على موروث حضارة، والعلم هو الناقل النشط لهكذا موروثات، عبر الكلمة، وهي تعبر عبر مسارين متلازمين، كتابة وقراءة، محاولة فهم وإدراك، وبناء متواصل لطرق المعرفة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق