السياحي
«بروج» البلجيكيّة.. هندسة فريدة، وكنوز معماريّة
حينما تضع قدميك على شوارع مدينة “بروج” البلجيكية، المرصوفة بالحصى، والحجارة، والمعجونة بماء التاريخ، ستشعر أنك عدت إلى القرن التاسع حيث المباني القديمة، وعراقة المكان، ولبلوغ ذلك يتحتم عليك أن تقطع مسافة ليست بالقليلة. استغرقت الرحلة بالقطار انطلاقا من “لييج” ساعتين، قطعناها في تأمّل المساحات الخضراء الشاسعة، حتى وصلنا المدينة الواقعة شمال غرب بلجيكا، والتي تعد ثالث أكبر مدينة في إقليم الفلامندي، ووقوعها قرب مصب نهر زوين أكسبها أهمّيّة تجارية، وسياحية، حتى بلغت في القرن الرابع عشر ذروة نشاطها التجاري وعدت أهم مدن شمال أوروبا .
بلجيكا: عبدالرزاق الربيعي
ومن المحطة صعدنا حافلة، وبعد مسافة قصيرة، وصلنا الى الساحة الرئيسة في «بروج»، والاسم مشتق من كلمة فرنسية معناها «الميناء»، وتُدعى تلك الساحة «غروت ماركت» فوجدناها تضجّ بالحياة، لاسيّما محلّات بيع الصور، والزهور، والأشغال اليدوية، والهدايا، والأقمشة المطرّزة، إذ اشتهرت المدينة قديما بالتطريز، حتى صار رمزا من رموزها، ومحلات بيع الشوكولاته، والاكسسوارات، والمقاهي، والمطاعم، تمتلئ بالسيّاح الذين يتجوّلون بين المساحات المفتوحة على أبنية تاريخية، ومعارض الرسم
طابع معماري فريد
ورغم صغر المركز الذي أدرجته منظّمة «اليونسكو» ضمن مواقع التراث العالمي عام 2000 لتميّزه بطابع معماري فريد، إلّا أن الاستعانة بخارطة سياحيّة بدت حاجة ضروريّة، توفّر للسائح الكثير من الوقت في مكان حيوي يمتلئ بالناس، وعربات الخيول، حيث يمكنك سماع وقع سنابك الخيول التي تجرّ عربات سياحيّة، تقطع شوارعها، المليئة بالدراجات الهوائيّة، وأفواج السياح، الذين تقول إحدى الإحصائيّات أنّ أعدادهم بلغت أكثر من مليوني سائح، سنويا، والموسيقيين، وفنّاني الشوارع الذين يقدّمون فقرات ترفيهيّة، والمعزوفات الموسيقية، وشاهدت في الساحة رجلا يقف في منتصف الساحة، ويرفع لافتة يحذّر بها من مخاطر التلوث البيئي بما يؤكّد حيوية المكان.
أجراس، وكنائس
ومن أبرز معالم مركز المدينة المعروفة بهندستها الفريدة، وكنوزها المعمارية برج «بلفري وهالي» ( هيلز وبرج الجرس)، أو برج الساحة، الذي يعود بناؤه إلى العصور الوسطى، ويبلغ ارتفاعه 83 مترا، ويحتوي على العديد من الأجراس التي يبلغ عددها 47 جرسا، وليس جرسا واحدا، كما توحي التسمية، وتقف كنيسة «السيدة العذراء» التي يعود تاريخ بنائها إلى عام 1230م، ويبلغ ارتفاعها 112 مترا، شامخة في المركز، وفيها منحوتة من مادة الرخام لمايكل انجلو أنجزها عام 1503 اسمها ( العذراء والطفل) إلى جانب منحوتات أخرى
قطرة من دم مقدّس
وتوجد كنيسة الدم المقدس التي أخذت اسمها من اعتقاد سائد هو أن في هذه الكنيسة قطرة من دم السيد المسيح (ع)، أحضرت في عام 1149م من الأرض المقدسة بعد الحملة الصليبية الثانية، واحتفاء بتلك المناسبة تقيم المدينة موكبا سنويا في شهر مايو يتم خلاله عرض تلك القطرة، موضوعة في قارورة، وفي منتصف الساحة يقف تمثالان لجان برايدل وبيتر دي كونيك، وأعمال تتحدّث عن تاريخ المدينة لأسماء كبيرة في التشكيل العالمي لعلّ أبرزها لسلفادور دالي، وله معرض لأعماله في «بلفري»، و معرض «فرانك برانجوين» الإنجليزي المولود في بروج، ووضع رسومات عديدة تتحدّث عن تاريخ مدينته.
أعمال لرسامين عالميين
وإذا كانت «بروج» بطبيعتها، وبناياتها القديمة تعدّ متحفا طبيعيا، ففي المدينة أكثر من متحف للفنون التشكيلية، فقد استقطبت أعمالهم، وصار هذا الاحتفاء بالأعمال الفنية التي رسمها كبار فناني العالم، والتماثيل المعروضة في ساحاتها، وكنائسها، سمة مميّزة للمدينة، ومن بين تلك المتاحف: متحف غرونيج للفنون الجميلة، الذي يضمّ مجموعة أعمال لرسامين عالميين تروي تلك الأعمال حكايات دينية، وتعرض مناظر جميلة لبروج القديمة، ومتحف ميملينغ الذي يضم مجموعة من لوحات الفنان هانز ميملينغ التي تروي قصصا تاريخية، وأساطير تعدّ من أعظم ما أنتج هذا الفنان الشهير.
جولة على متن قارب
ويصعب على زائر مدينة «بروج» الإحاطة بأهمّ المعالم السياحيّة للمدينة من دون القيام بجولة بالقارب الذي يسير بين قنواتها المائية الكثيرة، أو ركوب عربة تجرّها الخيول، أو باص سياحي صغير، فاخترت ركوب أحد القوارب، فالماء يشكّل عنوانا عريضا وبارزا فيها، وبذلك تشبه فينيسيا، إذ يحيط بها الماء من جوانب عديدة، وبعد انتظار، لكثرة الراغبين، رغم أن القوارب ليست قليلة، وحين حان دوري وجدت نفسي إلى جانب حوالي ثلاثين شخصا، لينطلق القارب، مناسبا فوق سطح مياه هادئة، ينعكس عليها جمال البنايات المحيطة، المثقلة بعراقة المكان، وكان قائد المركب، كلّما نبلغ موقعا، يخفّف السرعة، ويقف ليشرح لنا عن تاريخه، وليفسح المجال لكاميراتنا لالتقاط صور جيّدة لمدينة أينما ولّيت وجهك، ترى مشهدا يفتح شهية عدسة كاميرتك لالتقاط المزيد من الصور.
عناق حميم مع الطبيعة
واصلنا جولتنا التي استغرقت حوالي ساعة، وكان لابدّ لي أن أستحضر منطقة الأهوار في جنوب العراق، حيث تعوم البيوت، فوق الماء، وتحلّق الطيور، في الأعالي، وتسبح الأسماك في قاع المياه، فيما تعدّ القوارب وسيلة النقل الوحيدة التي تستخدم في تلك المنطقة، كانت طيور البط، تسبح على سطح الماء في القنوات التي مرّ بها قاربنا، وتبدو غير خائفة لأنها ألفت ،كما يبدو رؤية السيّاح، بل كانت تسير على المساحات الخضراء التي تحفّ بالماء بطمأنينة كاملة، مددنا البصر على الجانبين، فشاهدنا بنايات قديمة، وكانت تقف خلف كلّ بناية حكاية، وتاريخ، ومن بينها قصر ديجير الذي بُني في القرن الخامس عشر، إلى جانب العديد من القصور، كذلك مررنا بعدد من الفنادق القديمة والحديثة، وبين حين وآخر كنّا نرى جسرا يعترض طريق القارب، وتقف فوقه مجاميع السيّاح، الذين ينظرون لنا من الأعلى، ويلتقطون الصور التذكاريّة، وكان بعض الجسور منخفضا جدا حتى تكاد أن تلامس رؤوسنا في عناق حميميّ مع الطبيعة، فنطأطئ هاماتنا كلما اقتربنا منها، لنسبح في ظلام سرعان ما يسفر عن مشاهدة مناظر خلاّبة حين نتجاوز الجسر، ثم يلوح لنا من بعيد جسر آخر.
حلم لذيذ
وخلال الوقت الجميل الذي أمضيناه في المدينة نسينا الوقت، ولاحظنا أن قرص الشمس بدأ يلوح للمغيب، والمكان يواصل عزفه على أوتار الروح، وحين قفلنا راجعين إلى المحطّة أحسسنا أننا أمضينا نهارا مع حلم لذيذ أعادنا للعصور الوسطى في مدينة أوروبية ساحرة اسمها «بروج».