الثقافي
بصحبة فاطمة جينجا في الطريق إلى أوسلدورف حيث تنام الأميرة سالمة
حمود بن سالم السيابي
كانت سطور سيرتها معي على الطائرة المسافرة إلى هامبورج وهي بكامل أناقتها الزنجبارية وسحرها الإفريقي لتنثر عذابات نصف قرن اجتثت فيها “أنغوجا” الزمن العماني وكسرت تاج جمشيد وأكل فيها القتلة لحم أبيها.
وبينما يلوح صفصاف هامبورج من نافذة الطائرة إيذانا باقتراب مطار الوصول تتلاطم أمواج امرأتين لهما مع الحب التباساته ومراوداته وغواياته ورهاناته. إنهما فاطمة بنت محمد بن سالم البرواني أو فاطمة جينجا جليسة مقعدي في الطائرة والأميرة سالمة بنت سعيد بن سلطان المتوسدة تربة مقبرة “أوسلدورف” والملتحفة ورق شجرها الذابل وجعا ونواحا.
لقد ألقت الأميرة سالمة عصا الترحال هنا بعد تنازع الخيارات بين التمسك بأهداب عمامة سعيد بن سلطان أو الاصطلاء بمنديل رودلف المغموس في قارورة عطر ألماني لينتصر المنديل والعطر ورودلف.
وجاءت فاطمة جينجا بحكايات تئن بين دفتي كتاب “ذكريات من الماضي الجميل” للكاتبة الكبيرة الأستاذة الدكتورة آسيا البوعلي.
وبينما يتعالى فحيح إطارات “اللافتهانزا” لدى احتكاكها بإسفلت المطار يتعالى في الأسماع فحيح حكايتي الأميرة سالمة وفاطمة جينجا فأستعيد الأولى من ركام قرن ونصف القرن وأصطحب الثانية وهي تتأنق بين دفتي كتاب.
لقد جمع المرأتين الحب ووجع الحروف، فأحبتا وتزوجتا وكتبتا السيرة وتحملتا الفقد.
وتكرر الزوج التاجر في الحكايتين، والزوج المسيحي في السيرتين وإن اختلفت التفاصيل، فسالمة أحبت مسيحيا ألمانيا وتنصرت لأجل عينيه، فتخلت عن المجد وزنجبار واسمها وعائلتها وتاريخها لتبني عائلة جديدة لم تدم إلا لبضع سنوات فيموت الحبيب وتبقى هي أسيرة أمسه وعطره ومناديله إلى أن جاورت رخامة قبرها رخامة قبره في أوسلدورف دون أن تستبدله بحب جديد رغم صغر سنها، ولا بزوج جديد رغم حاجتها للزواج.
وخفق قلب فاطمة جينجا لتاجر أيضا حالها حال سالمة، ولكنه عربي ومسلم مثلها، فترنح الحب لمجرد أن قرر التاجر اليمني محمد الشاجري نقل تجارته من زنجبار إلى مقديشيو، فكانت زنجبار لدي جينجا قضية أكبر من الحب فداست على قلبها لتنتصر لحب زنجبار ولتكون الأقرب إلى شوانب القرنفل والنارجيل فترفض الانتقال معه إلى الصومال، فتنفصم عرى الحب بالطلاق لتتزوج من محمد بن سالم البرواني أحد ضباط جيش السلطان جمشيد الذي وجد نفسه حبيس الزنزانات عقب الانقلاب. وأثناء تردد فاطمة جينجا على مكاتب الطغاة لالتماس العفو عن زوجها البرواني وإطلاق سراحه يفاجئها البرواني بفراره من المعتقل فيعلي شراعه باتجاه عدن فيطلب منها اللحاق به فيكبر حب زنجبار فيثنيها عنه فتنفصل عن الزوج الفارّ لتتزوج السجان وتسقط فريسة في وكر قائد جيش الانقلاب.
وبعد ربع قرن من التمرغ في وحل السجان يلفظها قائد جيش الانقلاب بعد أن أضاف إلى وكره فريسة أخرى، فتقترب فاطمة جينجا من مدرس رياضيات مصري مسيحي يدعى ماهر الجيزاوي ويصغرها بتسع سنوات إلا أنها كانت أرأف بنفسها من الأميرة سالمة فاشترطت عليه الإسلام.
وحين عبرت الأميرة سالمة المحيط الهندي فالبحر الأحمر فالأبيض المتوسط فبحر البلطيق، فإن أمواج هذه البحور لم تفلح في محو حبها لرودولف فدخلت معه الكنيسة، وشهدت فاجعة رحيلة فاستمرت وفية له وللنصرانية حتى الرمق الأخير.
وسافرت فاطمة جينجا مع زوجها النصراني المصري من زنجبار إلى القاهرة بعد أن خافت على زواجها منه التعثر بتغليب حب زنجبار عليه فقبلت الاغتراب معه، إلا أن ماهر الجيزاوي كان فاشلا في تقديس التضحية فاستبد به الحنين لإنجيله وقساوسته وكنيسته ونسي الحبيبة جينجا التي تعود مهيضة الجناح، إلا أنها لم تفرط بسجادة الصلاة فتنهي سنتين من زواج خائب.
وتنازعت سالمة أمجاد السلاطين وغوايات الألمان فانتصرت الغوايات.
وتمزقت فاطمة جنجا بين رأس أبيها الذبيح والسيف الذي احتز رقبته فخضعت للسيف والسياف.
وكان محمد بن سالم البرواني والد فاطمة جينجا أول وجبة على موائد الجائعين الذين افترسوه بدم بارد ومع ذلك كان لدى فاطمة جينجا القدرة على الغفران لتوجه صفعتها المدوية لشجر القرنفل والنارجيل، وتدوس على عشب أنغوجا وبيمبا بحذاء عسكري ملطخ بدماء الجماجم بقبولها الزواج من اللواء يوسف حميد مفتاح رئيس جيوش عبيد كرومي وقد تناست لون الموت في عيني أبيها وغرغرة الدقائق الأخيرة.
وبدلا من أن يزرع استشهاد أبيها برية قلبها حقدا على القتلة الذين ذبحوا زنجبار من الوريد إلى الوريد ورفعوا الجماجم أقداح خمر وأنخاب نصر وجندلوا رقبة والدها تخرج جينجا من نعاس الليلة الزنجبارية الكئيبة لتصافح شمس بيمبا وهي تحمل سلتها لتقطف الياسمين.
ولمجرد أن كذب عليها عبيد كارومي بنفي صلته بمقتل والدها ألغت السجل الأسود للقتلة.
وحين وافق عبيد كارومي على السماح لزوجها سالم البرواني قبل أن يفر من سجنه بزيارة ابنهما الذي ينازع الدقائق الأخيرة للسرطان رأت في قائد الانقلاب ملاكا يهبط من السماء، وأن زنجبار تستحق مثله.
وبعد طلاقها من زوجها محمد البرواني كانت زوجة عمانية لقائد جيوش كارومي قاتل العمانيين والمجتث للزمن الزنجباري المعمد أمجادا وسلاطين، ورغم عدم التكافؤ بين جينجا المتعلمة وابنة شهيد درس في كمبردج الليسانس وحصل على الماجستير من أوكسفورد وبين اللواء يوسف حميد مفتاح الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، والذي انتقل من سائق سيارة في جيش السلطان إلى قائد لجيش الانقلاب برتبة لواء، إلا أنها قبلت الزواج منه لتضمن عدم تعسف الانقلابيين بابنها وبناتها فاقتطع اللواء مفتاح هداياه لها من لحم أهلها، وألبسها جواهر من فتات ترصيعات سيوف سعيد بن سلطان وفصوص خواتم برغش وتاج جمشيد.
وكل يوم يمر على أندلس أفريقيا كانت أنغوجا تطفئ المزيد من قناديل برغش.
وتستوحش الستون تاون غياب العمال الذي يغسلون ساحاتها ودروبها بالماء والصابون.
إلا أن فاطمة جينجا الوحيدة التي تشرق في ليل الجزيرة الحالمة فتواصل التقرب من القتلة بموافقتها على زفاف ابنتها شادية كزوجة لنجل رئيس الانقلاب لتتكرس كثاني عمانية على مضاجع القتلة، ويقترن ابنها منصور بعائشة ابنة الطاغية كارومي.
وتكبر فاطمة جينجا زوجة القتلة و”شمجة” القتلة إلا أن زنجبار لا تكبر بل تصغر معها إلى أن ينسل من بين أقارب فاطمة رجل تحمله الغيرة على رايات سعيد بن سلطان وأشرعة سفائنه لأن يعيد الاعتبار للعمائم البيضاء وللنارجيل والقرنفل وأمبا الدودو فيحشد الملازم حمود بن محمد البرواني أطنانا من الغضب والثأر، ويحشو مسدسه رصاصات منقوعة في السم لينتزع بها قلب عبيد كارومي من مكانه ويجبره على أن ينزف دماء كل الجماجم التي هرسها، ودموع كل الثكالى اللائي خلع قلوبهن بقتل أبنائهن، ومياه كل السواقي التي تحمل الماء لعطش “شوانب” المكان.
ورعم نجاح الملازم حمود البرواني في قتل عبيد كارومي رئيس زنجبار أو مغتصب زنجبار إلا أن رصاصات مسدسه لم تحرر للأسف شهادة جديدة للحياة، فزنجبار سبق وأن ماتت مع تلويحة الوداع لجمشيد وهي ذاتها تلويحة فاروق وهو يغادر المحروسة، وقبل التلويحتين تلويحة أبي عبدالله الغالب، أو زفرة العربي الذي يبكي كالنساء ملكا لم يحافظ عليه كالرجال فسلم غرناطة لفرديناند وإيزابيلا.
كما لم تنجح رصاصات البرواني في إرجاع راية آل سعيد على سارية بيت العجائب ولا استعادت أغماد السيوف جواهرها ولا الخواتم فصوصها، فتأبطت إفريقيا السوداء ذراع أماني عبيد كرومي لتجلسه على كرسي كرومي ولتنتقل شادية ابنة جينجا من زوجة ابن الرئيس إلى زوجة الرئيس وسيدة زنجبار الأولى وليتبوأ أحد ابناء فاطمة جينجا موقعا وزاريا في الجمهورية الزنجبارية الثانية.
وفي سيرة السيدتين العمانيتين كانت زنجبار هي الجغرافيا الراعفة بالقرنفل.
وفي سطور الكاتبتين يشمخ جوز الهند وشجر الدوم ويزهر أمبا الدودو.
وفي حروف الكاتبتين كانت زنجبار الذابحة والمذبوحة.
وكان الشوق لعمائم آل سعيد وسيوفهم طافحا عند سالمة، بينما تعمدت جينجا غمس قلمها في المداد الباهت ليحمل رؤيتها في زوايا المشهد والحدث والمكان والناس.
وبينما تسحر سالمة الأوروبيين من عشاق الشرق والتوابل كانت جينجا تقدم الجغرافيا الزنجبارية الموبوءة بخيانة البعض للرايات، وتملق البعض للعهد الذي أنزل الرايات.
وكانت سالمة تدخل الأوروبيين في حياة القصور السلطانية، وكانت جينجا تحدثهم عن الذين استحقوا ضياع القصور.
وتبقى جينجا الأصدق وهي تكتب عن زمن عاشته بطوله وعرضه حتى بلغت من العمر عتيا إلى أن طالت سقف الثمانين حولاً ولم تسأم، بينما ابتعدت سالمة عن زنجبار وهي في سن المراهقة فكانت شهادتها مجروحة في زنجبار السلاطين وهي تكتل بإعجاب البنت بأبيها، فكل بنت بأبيها معجبة.
وبينما تعلن مضيفة اللافتهانزا فك حزام المقاعد وعدم نسيان المتعلقات الشخصية كنت أدس في جيب الحقيبة كتاب الدكتورة آسيا البوعلي “ذكريات من الماضي الجميل” بعد بلوغي الصفحة الأخيرة التي تتحدث فيها الكاتبة عن فاطمة جينجا الروائية وعن التباسات كتابة رواية “تعويذة النيروز” ومقارباتها لزمنها وزمن زنجبار، لأقلب في الصفصاف الواقف بامتداد الطريق من المطار إلى ضفاف “أليستر” عن ضجيعة الصفصاف في “أوسلدورف” وعن عمانية تشاركها الحب والغوايات ووجع الحروف.
———————-
هامبورج في ٢١ يونيو ٢٠١٨.