السياحي
فيينا .. وليِّنةُ الفراش
سعيد بن خلفان النعماني
ماذا لو عادَ الشَّاعر أحمد رامي إلىَ الحياةِ مرة أخرىَ وقفل راجعاً إلى فيينا التي عشقها وانشد فيها شعراً باقياً قبل 7٥ عاما؟.. وهل سيغير رأيه ولطائف الجمال التي استحوذت عليه وجعلته يصفها بأنها روضة من رياض الجنة وهل سوف يعيد كلمات مقطوعته الزجلية مرات ومرات لينتقي مفرداتٍ مختلفة تحتضنُ الرؤىَ البعيدة دون السفر اليها، فهذه المدينة بالطبع لم تعد كما كانت حيث مدحها رامي وقت شبابه حيثُ يستشعرُ الجمالَ في كل شيءٍ؟!.
يُفتن الشعراءُ اكثر من غيرهم بروافدِ الجمال والابداع الإلهي والإنساني، ليس بعين الرضَا فحسب ولكن للتدفق العاطفي الذي يسكن قلوبهم، وللجمال اللامتناهي الذي يسيل عذب الكلام ويخدِّر الافئدة وان لم يجدوا جَمالاً يثيرهم في ذلك المشهد، عمدوا الى البحث عنه في ذاتهم المغيبة وأحلامهم البعيدة التي ترى كل شيء ولكن بدافع الحب والحنين، ربما بأمل يحدوهم الى سُحبٍ قادمةٍ محملةٍ بالمطرِ.
من يعود قليلاً الى شعراء منتصف القرن المنصرم يجد وصفاً جميلاً للمدن والمواقع التي زاروها او حتى سمعوا عنها، يعبرون عنها بصورٍ متلاحقةٍ من محسنات اللغة ومفرداتها التي استوعبت فكرَ الشاعر وما يرمي اليه، اقول هذا وفي ذاكرتي ( لينة الفراش ) التي تغنى بها ابن شيخان ( توفي في العام 1927) الملقب بـشيخ البيان لتمكنه من المعاني وإحكامه للقوافي. فهو يقول:
وليّنـــةِ الفراش لها نسيــــم
يعيد لكل تائهــــةٍ هداهــــــــا
إذا بسطت شمائلهــــا لنفسٍ
حشت بلطيفِ أفراحٍ حشاهـــا
تفوح بها رياح المسك لكن
بلون الورسِ قد خضبت رِداها
إذا نشرت محاسنها بأرضٍ
فكثبان البسيطةِ من فداهــــــــا
إذا ما قمت مستوياً عليهَا
كأنكَ قد علوتَ على سماهــَـــا
طبعا هذا وصف عذب لقرية الحوية بولاية بدية، وكأن ابن شيخان يستشرف المستقبل بنظرته وقتها الى أن بدية سوف تكون موقعاً سياحياً مميزاً على خارطة السياحة العمانية، فمن يزور كثبان رمال بدية لاسيما في ليالي الشتاء الدافئة ويرى تلك المجموعات السياحية المنتشرة في كل مكان يكتشف معنى ابن شيخان (اذا نشرت محاسنها بأرض، فكثبان البسيطة من فداها)، فكثبانها الرملية من أجمل مناطق الاسترخاء والتخييم في السلطنة وتتدرج ألوانُها من الأحمر إلى البني على امتداد البصر مكونة واحات شاسعة مختلفة البيئات والمكونات منها واحة الراكة التي تحيط بها التلال الرملية من ثلاث جهات وواحة شاحك وواحة العيدان وكذلك الحال بالنسبة لواحة الحوية التي أبدع عنها ابن شيخان قصيدته التي حفظناها ضمن منهجنا الدراسي منذ زمن طويل، بل اشبعناها دراسة وتحليلاً واستخراجا للمحسنات اللفظة والبديعية والصور المتلاحقة لحركة الرمال والنسيم الذي يصافح وجهها.
عودة الىَ رامي الذي فُتن بإقليم بافاريا الشهير، حيث وقتها لم تزل النمسا ضمن الكيان الالماني، وعندما نقل اثير اذاعة القاهرة مقطعا من فيلم غرام وانتقام (1944م)، بصوت اسمهان وهي تشدو بليالي الأنس في فيينا، كانت تلك المدينة تتعرض للدمــار وقذائف الحلفـاء في أوج الحـرب العالميـة الثانيـة، فكانت التفاتـة وابتهاج عما يخبؤه المستقبل للنمسا من استقرار واطمئنان، بل ولتكون قبلة للسياحة العالمية، من يتجول في النمسا يشعر بالسكينة والاسترخاء حيث تتزين أراضيها الشاسعة باللون الأخضر نسبة للحدائق الغنّاء والغابات المنتشرة في كل مكان، مما يجعل جوها مثالياً، بينما تتميز المياه التي تصلها من جبال الألب بدرجة نقاء عالية.
عندما سأل رامي عن سر كتابته لليالي الأنس بالزجل المحلي ولم يكتبها فصيحةً قال: أردت أن يكون الزجل راقيا ومحتويا لفكر العامة كما هو الشعر الفصيح.
ولكن السؤال: لو جاءت نسخة حديثة من رامي تعي زمنه، مبدعة أجمل المقاطع.. فهل سيجد من يجتر الألم من اعماقه الخفية؟، وهل سيجد طيورا تبكي مرارة الفقد بشدو تتسع له المحيطات والخلجان الصغيرة ضمن لوحة منفردة لا يفهمها الا زمنهم.
ليالي الأنس في فيينا نسيمها من هوا الجنّة
نغم في الجوّ له رنّة سمع لها الطير بكى وغنّى