مقالات
نبوءة «بيل غيتس»الصغيرة!
عبدالرزاق الربيعي
في السنوات الأخيرة قلّلت من ساعات مشاهدتي للتلفزيون حتى وصلت إلى الساعتين، أو الثلاث في الأسبوع، بالكثير، مستعينا باليوتيوب لمشاهدة البرامج الحوارية التي أحرص على متابعتها، والأفلام المتميّزة، ويبدو أنني لستُ أجري بهذا المضمار وحدي، فلقد لاحظت أنّ الكثيرين يشاركونني هذا العزوف، فتلفزيون اليوم، لم يعد يلبّي حاجة المشاهد الفكرية، ويغذي ذائقته الفنية، لأسباب عديدة يقف في مقدّمتها تراجع البرامج الهادفة، التي تضيف شيئا لذائقة المشاهد، وخلوّها من المتعة، واعتمادها على مذيعين غير أكفّاء، يفرشون مساحة واسعة من وقت البرامج للاتّصالات المباشرة، وكثيرا ما تتحوّل هذه الاتّصالات إلى سباب، وعراك، وثرثرة فارغة، فتتحوّل البرامج إلى أحاديث تشبه الأحاديث التي تدور في مقاهي العاطلين، والأسواق المزدحمة بالباعة ذوي الأصوات العالية التي تروّج لبضائعها!!
ويضاف إلى ذلك تراجع الإنتاج الدرامي، وضعفه، والطامّة الكبرى تتمثّل في كثرة الإعلانات التجاريّة التي تحتلّ مساحة واسعة من ساعات البثّ، حتى كدنا نشهد أفول العصر الذهبي له، وهذا ينسجم مع مقولة بيل غيتس عندما رأى أن «التلفزيون سيكون جزءا من الماضي»، ليس التلفزيون فحسب ،بل حتى أجهزة الراديو ! وهي نبوءة محزنة لمحبّي جهاز التلفزيون الذي عرفه العالم عام1884، ولكن عجلة الحياة مستمرة في السير، وتسحق كلّ ما لا ينسجم مع قوانين التطوّر، بما يضمن حدوث نقلات نوعيّة، تجعل المخترعات تواكب العصر، ومتغيّراته، فعمليا بدأنا نستعيض بالخدمات التي يقدّمها التلفزيون من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، من أخبار، وحوارات، ومقاطع مسلية، وأغان، رغم أن من المبكّر الحديث عن هذا في عالمنا العربي الذي عرف التلفزيون عام1954 في بغداد سابقا دولا كبيرة كالصين التي عرفته في 1958 والهند1959، كان ذلك عندما بدأ أول تلفزيون عربي ارساله في العراق، بعد أن شاركت شركة بريطانية، وبعض المصادر تقول المانية، في معرض تجاري ببغداد، ولفت ذلك الجهاز انتباه الجمهور، فقامت الشركة بإهداء الجهاز مع استوديو صغير للحكومة الملكية العراقية، وبدأ بث أول تلفزيون عربي، في 1-5-1956 وبالأبيض والأسود، واقتصر البثّ على بغداد، فيما شهد العام1976 الارسال الملون .
ومثلما أطاح البثّ بالألوان مملكة «الأبيض والأسود»، الذي ارتبط بالأعمال الدرامية، والأغاني، والأفلام المحفورة في ذاكرتنا، بدأ التطوّر التكنولوجي، يطيح بالتلفزيون من عرشه، مع ألوانه الزاهية!
فحركة عجلة الحياة لن تتوقّف عن السير!
وعبثا حاول الأصدقاء إعادة صلتي بهذا الجهاز الذي علاه الغبار في بيتي، لكنّ أحدهم نجح في ذلك من خلال العزف على وتر حسّاس هو وتر شاشة «الأبيض والأسود» حين نبّهني إلى وجود قناة عربية متخصّصة ببث مواد قديمة، وطلب مني الموافقة على فتح التلفزيون ،والعبث بأزرار (الريمونت كنترول) حتى اهتدى لتلك القناة التي تبثّ موادها بالأبيض والأسود!، وبالطبع أمضيت الدقائق الأولى على مضض، لكن شيئا فشيئا بدأ بصري ينشدّ للشاشة، وبدأت أتابع برامجها،وقد يسأل سائل لماذا؟ وأنت أدرت ظهرك للشاشة الصغيرة؟ فأجيب :ليس من باب الحنين إلى الماضي «النوستالجيا»- هذا المصطلح الذي نسج من كلمة يونانيّة الأصل– بل لأنني وجدت ما كنت أبحث عنه، من متعة، وإضافة، وجمال، رغم أن 90% من المواد المعروضة تأتي الصورة ليست على درجة من الجودة، بل مشوّشة، ومهزوزة، والكاميرا في أحايين كثيرة ثابتة،لكنّها تشد الأنظار، وتجذب الأسماع، وياجمال صوت المؤذّن ،وهو يرتفع في عنان السماء ليأسر السامع، ومعظم تلك المواد كانت غنية بالمحتوى، الذي يعكس المرحلة التي أنتجت بها تلك المسلسلات، والأفلام المحتشدة بنجوم الفن الجميل، والمقطوعات الموسيقية، والندوات التي تخاطب عقل المشاهد ووجدانه، والمسرحيات الكوميدية الهادفة، أما عناوين البرامج، والمسلسلات، فهي مكتوبة بخط جميل، حتى شارات البدء والختام في المسلسلات فيها رسالة، وجمال صوت، وتقدم ملخصا للفكرة العامة لتلك المسلسلات ذات المضامين الراقية، والأداء المتقن. أما برامج الأطفال، فرغم أن المساحة المخصصة لأكبادنا التي تمشي على الأرض صغيرة، لكنني أجزم أنها كانت كافية لجعل الأطفال يلتصقون بالتلفزيون بانتظار برامجهم بشوق كبير، لأن معظمها فيه تسلية، ومتعة، وفائدة سواء بالأغاني، أو البرامج، وتعيدنا إلى ذلك الزمن الذي لم نكن نشاهد مواد إعلانية تصدع الرأس، وتلتهم وقت المشاهد، تماما، مثلما هي إعلانات اليوم، وهذا الكلام لا يقتصر على بثّ تلك القناة، بل ينطبق على تلفزيون ذلك الزمان عكس تلفزيونات اليوم التي فشلت في جذب الجمهور، وهذا الفشل انعكس سلبا على اقبال المعلنين الذين بدأوا يطرقون أبوابا جديدة، ومنصات مبتكرة للترويج لمنتوجاتهم، بشكل أسرع، وأقوى تأثيرا، وأوسع جمهورا، تماما كما حصل مع الصحافة الورقيّة!
ولكي يبسط التلفزيون هيمنته مجدّدا، ويسترد جمهوره الذي فقده، على القائمين على تلفزيونات اليوم أن يشاهدوا تلك البرامج، ومعرفة أسرار تلك الخلطة السحريّة التي تجعلنا رغم مرور عقود على انتاج تلك البرامج مازلنا نستمتع بمشاهدتها! وبذلك يستعيد التلفزيون مكانته التي فقدها ليس بسبب منافسة وسائل التواصل الاجتماعي له، بل لأنّ المحتوى تراجع، ولذلك، فمن الطبيعي أن يبدأ هذا الجمهور إدارة ظهره له إلى ما هو أحدث، وأكثر جدوى، ونفعا ليصبح من الماضي كما تنبّأ بيل غيتس للشاشة الصغيرة!