مقالات
هل تسمعين أشواقي عندما أكون صامتا
حمود بن سالم السيابي
نصف قرن تغيّر فيه الكل إلا أبي وكأنه يخرج لتوه من هيبة بيت البرزة بنفس المحزم الصدئ والتفق الذي تكلَّس على خشبه الزمان ليمارس هيبته على طفولتنا وشبابنا بل وكهولتنا.
وتجددت كل البيوت إلا بيت أبي ما زال بصفته حيث يختبئ الظلام، وبليوانه الذي تحركه “بانكة” السقف فنشم مطرح القديمة برطوبتها وملحها وبروائح مرقة الدال في الهوتيلات واحتراق خبز التنور.
ورغم أن الوالدة أضافت ساعة “سيكو” على دماليج رسغها وإن لم تعرف قراءة الأرقام ولكن لتشاطر أيدي الصويحبات الممدودة بالساعات على فوالة قهوة الضحى، بينما أبي ما زال على ساعته “الراس كوب” التي لم نعد نراها إلا في المسلسلات التلفزيونية الخليجية التي تصور التجار القدامى والنواخدة والكرانية والطواويش حيث تتدلى الراس كوب من جيوب كيتانهم بسلاسلها البيضاء ولا تفتح أغطيتها إلا إذا ارتفع الأذان ليتأكدوا من انضباط الوقت في الساعات أو ليحاسبوا المؤذن الذي يبتلع الدقائق أو تبتلعه الساعات.
كان أبي مجرد عسكري بسيط في بيت البرزة إلا أنه يرى نفسه من موقعه تحت شعار الدولة البوسعيدية ركنا من الأركان وكاتمًا من كاتمي الأسرار.
وكلما جاء ذكر جلالة السلطان سعيد بن تيمور تلفَّت أبي يمنة ويسرة حبًّا وخوفًا، فكان لا يتوازن في جلسته إلا بعد أن تنحني أهدابه محبة لصورة السلطان سعيد التي تتوسط بنديرتين سعيديتين في مرايا الليوان.
وكلما ساءلتُ أبي عن مطرح والسلطان سعيد وإسماعيل الرصاصي لعل في تجميعي لإجاباته يتيح فرصة لتوثيق زمنه فأجاري الكتاب في استشراف زمن كتبوا عنه دون أن يعيشوه، فأكتبه أنا على لسان شاهد من العصر، رمقني أبي بنظرة تلسعني إلى نخاع النخاع.
لقد انتحرت خطواتي نحو كتابة رواية تحمل اسمي لأن الشخص الذي اخترته لبطولة عملي الأول لا يستجيب لاستفسارات المؤلف لتغتني الشخصية بالتفاصيل، ولا يتقيد بتعليمات المخرج فتتكامل الشخوص نضجا، ويرفض التجاوب مع أحلامي بالتحرك في السطور، فاختنقت الأحلام.
ورغم أن أبي يحبني كثيرا دون سائر أخواتي، فأنا الابن الوحيد بين بناته، واسمه الممتد إلا أنه يريدني أن أسمع صمته ، ويجبرني لأن أقبل تساؤل نزار لحبيبته هل تسمعين أشواقي عندما أكون صامتا؟ فهو لا يأتمنني على أسراره ويصر لأن يحملها إلى مقبرة العريانة معه.
وعلى النقيض من كل الآباء الذين يزرعون في عقول الأبناء شجر أعمارهم، كان أبي يحتفظ لنفسه بالأشجار والمواسم إلى أن يسترد الله وديعته وتبقى الأرض من بعده لي ولكن بلا ذاكرة.
جئتُ أبي ذات يوم في ليوانه برواية جديدة لقلم عماني جميل تسرد حكاية لمطرح التي يعشقها، فبدأت أقرأ على مسامعه بعض الفصول لعلها تحفزه فيكمل، فأقترب من حقول مطرح وشجرها ومواسمها، أو يصحح لي المعلومات فينكر أو يوافق إلا أنه استمر “يترس” ساعته الراس كوب التي يصلني اهتزاز مفتاحها بين سبابته وإبهامه.
رفعت نبرة صوتي لعل ضعف سمع أبي جعله لا يستوعب ما أسكب في أذنيه حتى بحَّ صوتي فأشاح بوجهه جهة صور السلطان سعيد في المرايا وبيده الراس كوب وهو يزجرني:
– بسنا من هذا “المضَّان”.
– هذا ليس بمضَّان، إنه زمنك يا أبي وحقولك ومواسمك.
– زمني انطوى مع أهله ونخيلي عطشت و“هذي سويلفات معصرات”.
ولطالما استقتلتُ في إقناع أبي بأن “23 يوليو عام 1970م قد حطم أصفادا” كما يقول الشاعر الكبير عبد الله الطائي، وأن الكثيرين “فتُّوا الرمانات” فربطوا الأجيال بمن سبقهم، بل وبعضهم استوردوا رمانا ليفتُّوه فأعطوا لأنفسهم مواقع ومراتب، إلا أن أبي ظل يمارس قسوته علي فيصفعني بمقولة “إلا الأسرار” يا سعيُّود فالمجالس أمانات.
ها هو كورونا يغلق معشوقتي مطرح حيث أبي هناك بين المرايا يعوم في خبيئة أسراره ويجدف الأزمنة التي يمكن أن تغرقه أو يغرقها.
إن أبي في الهزيع الأخير من العمر فهو في الثمانين، وقد يرحل بين ساعة وأخرى فكورونا لا يحب الرجال ولا الكبار، ومعظم ضحاياه من كبار السن كأبي.
يا لعزلتك يا مطرح، يا لوجعي فكورونا الغامض يضيف غموضا على غموض أبي ومغاليق على مغاليقك يا مطرح.
“لمن هذا الكحل يا مطرح وأنت تأوين إلى خدرك مسرعة عكس مواعيدك
ولأي جيد هذا الطوق من الياسمين وأنت تتدرعين بمعطف العمليات
لقد هرعتُ لأذنيكِ بالحكايا فتبعثرت عند أول حاجز للشرطة
وخبأتُ لشقاواتكِ الوشوشات ففضحتني نقاط السيطرة.
ما زلت تذبحينني بإيماءة “متى” على شفتيك ولا أملك إلا المواساة بصبح قريب”.
أقف عند نقطة السيطرة التي تطوق مطرح كبؤرة لكورونا.
هنا احتشد كل العشاق عند منافذ الدخول يتوسلون الضابط ليعبروا وأنت هناك تحت ديمة من زرقة سيارات الشرطة وعواصف التساؤلات وسيول الخوف.
تواصلت التوسلات لقائد السيطرة لألحق بأنفاس أبي الكهل وأمي المتعبة، والضابط يقنعني بأن حبي لأبي ولكل الآباء والأمهات في الإبتعاد عنهم وبأن لا أراهم هذه الأيام.
وكانت صورة أبي تتراءى في توسلات الكثيرين معي ونحن نمطر عناد الضابط باستجداءات العبور وهو يمارس مهامه بصلابة.
كان الوقت نهارا وجبال مطرح غائرة في سوادها وكأنها تتلفع الموت فلم تفلح شمس الربيع من إكسابها اللون القرنفلي، والسفوح التي كانت خضراء بعد آخر مطر بدأت تتيبس فتطاير كل القش مع الغربي.
نجحت أخيرا في الإفلات من نقطة السيطرة بتدخل من شرطي يعرفني فمرقتُ كالسهم لتحتويني الدروب الفارغة والمسكونة بخوف كخوف أبي من السلطان سعيد وإسماعيل الرصاصي رغم أنني بلا ذاكرة مثله ولا ساعة راس كوب مثله ولا محزم وتفق مثله.
مشيت وحيدا في الدرب الموحش تاركا العشاق يحتربون مع الضباط.
صدمتني البلدة الهاربة من السكيك لدرجة أنني تمنيت لو بقيتُ خارج نقطة السيطرة على مداخل مطرح لأحتفظ بمعشوقتي كما عهدتها بصورتها المفعمة بالحياة.
لقد بدت البلدة باردة إلا من احتراقي، وكأن الخطر يطارد الناس في الدروب فدفعهم للتكوم في بيوتهم الصغيرة كالسردين.
وبدا الدرب إلى بيت أبي محزنا فالعريانة النابضة بالحياة تموت فيها الحياة.
تسارعت دقات قلبي على باب بيت أبي فكانت الصدمة أنه انفتح لمجرد أن لامسته كفي قبل أن أطرقه عكس كل المرات التي تحرقني فيها الشمس وأنا أنتظر سعال أبي وتحمحمه ليفتح لي، أو أمي اللاهية وراء صفريتي العيش والمرق لتشرق بابتسامتها مع أول أطيط لفردة الباب.
دخلتُ أسابق أنفاسي لأجد أمي تولول وتلطم فاستبقت الشر بظنوني وأنَّ أبي قد مات فهذا زمن كورونا الذي يقطف أنجم سماواتنا.
(مقطع من رواية بروة استدعاء لمطرح، والتي ستكون بين أيدي القراء منتصف هذا الشهر)