مقالات
كل الفصول.. ربيع
تعود إلى دفتر طفولتك، كمن يفتقد غائبا مرّ على وداعيته بضعة أيام، لكن بلوعة فراق امتدت سنين..
في مفكرتك ما لا يحصى من تذكارات، كتبتها الطفولة كلمة كلمة، كما كتبت تفاصيلك حرفا بجوار حرف، وقد أيقنت أن كل ما مضى كان ربيعا بديعا رغم كل ما في ورده من أشواك.. ولأنه الأمس فليس في ذاكرتك إلا عبق عطر، بينما يبقى الشوك للقادم من الأيام، حيث خطواتك لن تكون بذات الأمان، وستتخلى عنك أشياء كثيرة كنت تحسبها أنها آتية براحة البال كلما أينع الخريف بين يديك، وأوجع مفاصلك الشتاء.
«أتاك الربيع…»، منذ الطفولة يأتيك البيت الشعري «يختال ضاحكا» لكنه يفتقد تلك الابتسامة التي حلمت بها طويلا، مجاديفك أضعف من أن تحتمل قسوة البحر، وقاربك يئن بما يلاحقك من أسماك القرش، كحال ذلك الصياد في رواية «العجوز والبحر» لهمنجواي، وصل إلى الساحل منهك القوى، فيما ضاع صيده في أفواه وحوش الماء، كان شجاعا ليقاوم، لكن الواقع مرير، والحياة وسط دوار البحر على مقربة من التوحش والوحشة أكثر مرارة.
الطفولة امتداد آسر، تسير على ضفافها كما لو أنها غابة كثيفة الأشجار، ليت كل العمر كان ربيعا، والزهر ينطق بالفرح، والأرواح الجذلى قادرة على أن تهزم ما يعترض الدرب من هموم وارتباكات بأمل أن الآتي أجمل، التعويل على الغد لدى من يتمسك بحلم أن اليوم التالي متمسك بمجيئه على قدر من الجمال ينسينا تعب اليوم.
كان الربيع على يدي محض مسمى في دفتر المدرسة، قال لنا الأستاذ إن السنة مكونة من أربعة فصول، ولم نكن ندرك إلا الصيف والشتاء.. وفوجئنا بشيء يقال إنه الربيع، وذلك المرتبط بالعمر، فيقال دوما «خريف العمر».
الصيف الذي يعني لنا الطبيعة، ليلنا ونهارنا في «المقيظة».. وكل ما حولنا يتنفس اخضرارا (نخيلا وليمونا وسائر الأشجار).. مع زقزقة عصافير وهديل يمام.
والشتاء الذي يشعرنا بالبرد في الأجواء الحارة التي بدأت بالكاد التعرف على حضارة الأسمنت، حينها لا تكون ملابسنا كافية لنتقي قسوة لياليه خاصة، وبرودة مائه حين تغيب وسائل التسخين عن الماء.. والتدفئة عن الغرف.. ومن غامر بوجود «الصريدان» في الغرف الطينية، أو ما شابهها، فإن الثمن كان مبكيا لدى كثير من الأسر.
مع جريان الماء كثيرا تحت جسر الذاكرة اتفقت مع نفسي على اعتبار أن كل الفصول ربيع، أقنعت نفسي بلا جدوى بقية الفصول..
بك، معك، اختزل العمر في فصل واحد: الربيع.
حضورك يزهر الذاكرة، يحسّن حالة الطقس، يقنع الورود بأن تتأنق على امتداد أيام السنة، وأن تبقى الأوراق في أشجارها، والفراشات ترقص على إيقاع الفرح.
سأتعلم من جديد كيف أعود إلى دفتر الطفولة ليكون دفتر اليوم، ما حاجتي للأمس وللغد، طالما أنك: هنا!
أغنّيك،
في مفتتح النهار؟!
كيف أقنع الشمس إذن..
وحولي ضياؤك..
بأنني مكتف بك..
قمري، وأغنيتي؟!