العام
لماذا ينتحرون؟
كان المريض الجالس أمامي ما يزال في العقد الرابع من العمر. بدا جسمه نحيلا من قلة تناول الطعام بسبب مرض الاكتئاب الذي يعاني منه منذ أكثر من عامين. كان صوته بالكاد يسمع والجرح في عنقه من محاولة الانتحار الأخيرة ما يزال ظاهرا رغم محاولته إخفاءه بطرف المصر. تنفس بعمق وبلع ريقه بضع مرات قبل أن يحكي: «وصلو بي الاكتئاب إلى درجة كبيرة يا دكتور، ضاقت بي الحياة وشعرت بأن وجودي فيها مثل عدمه. أصحو كل صباح بعد ساعات قصيرة من نوم متقطع، تنتابني فيه العديد من الكوابيس. كانت فكرة أن أنهي حياتي تراودني مرات عديدة، وكنت أكره نفسي كل مرة واستغفر ربي وأحاول جاهدا أن أشغل نفسي، لكن الأفكار السوداوية تحيط بي. و بعد تردد شديد قمت بجرح عنقي بسكين، وعندما نزف الدم بغزارة وشعرت بألم شديد قمت بالاتصال بزوجتي التي كانت خارج المنزل. لحسن الحظ عادت بسرعة وأخذتني إلى المستشفى حيث خضعت لعملية جراحية طارئة. عندما أفقت لم أتمكن من الكلام وشعرت بالذنب والندم على محاولتي للانتحار، دعوت الله أن يسامحني وأن يشفيني» .
د. حمد بن ناصر السناوي
استشاري أول الطب السلوكي
من خلال هذه المقدمة ندخل إلى موضوع المقال وهو قضية الانتحار. وقد خصصت منظمة الصحة العالمية يوم العاشر من أكتوبر من كل عام يوما للصحة النفسية، وتم اعتماد شعار هذا العام للحديث عن الوقاية من الانتحار نظرا للتزايد الملحوظ في أعداد حالات الانتحار، الذي يحتل المرتبة الثانية ضمن أهم أسباب الوفاة بين الشباب في الفئة العمرية ١٥ – ٢٩ سنة على مستوى العالم. وتهدف الحملة التوعوية إلى تسليط الضوء على هذه الظاهرة وبحث طرق وقايتها في مختلف المجتمعات.
ورغم أن الانتحار من الظواهر القديمة إلا أن وصمة العار المحيطة به مازالت تمنع المقدم على الانتحار من طلب المساعدة. في عام ٢٠١٤ قام الممثل الأمريكي المشهور روبين وليامز البالغ من العمر ٦٣ عامًا بالانتحار، وأظهرت التحقيقات بأنه كان يعاني من مرض الاكتئاب لفترة طويلة. ورغم النجاح الباهر للعديد من أفلامه التي حصد البعض منها جوائز عالمية، والروح المرحة التي يظهر بها في معظم أدواره إلا أنه كان يعاني في صمت، حتى انتهى به الأمر إلى الوقوع في نفق الاكتئاب العميق وإنهاء حياته. وقد يستغرب العديد من الناس لماذا يقرر شخص مشهور وعلى مستوى عالٍ من الغنى ولديه العديد من الأصدقاء بأنه لا يستحق الحياة؟.
لنستمع إلى رأي علماء النفس وهم يحاولون الإجابة عن السؤال «لماذا ينتحرون؟». ولعل بعض الإجابات نجدها لدى الأشخاص الذين نجوا من محاولات الانتحار حيث قال أغلبهم إنه لم يرغب في الموت قدر رغبته في التوقف عن الحياة. وهذه الازدواجية الغريبة حيرت الأطباء النفسيين الذين قاموا بتحليل بعض الأسباب التي تدفع الناس إلى الانتحار، و التي يمكن تلخيصها في الأسباب التالية :
1 ـ مرض الاكتئاب: ويعد السبب الأكثر شيوعًا لإقدام الناس على الانتحار في مختلف دول العالم، حيث يعاني مريض الاكتئاب من الأفكار السوداوية التي تشمل فقدان الأمل والشعور بعدم الجدوى «سيكون الجميع أفضل حالًا دون وجودي». ومما يزيد الأمر سوءا أن مريض الاكتئاب عادة ما يعاني في صمتٍ دون أن يشعر به من حوله، وقد يخطط للانتحار دون علم أحد، وقد يقدم على فعل ذلك مما يسبب شعورا بالذنب والغضب لدى المقربين منهم .
2 ـ مرض الفصام: وهو من الأمراض التي عادة ما تبدأ في سنوات الشباب الأولى وتدمر مستقبل المريض وقدرته على بناء حياته والتعايش مع الآخرين والتواصل معهم. معظم مرضى الفصام يعانون من الهلاوس السمعية حيث يسمع أصواتا لا وجود لها. أحيانا تأمره هذه الأصوات بأن يؤذي نفسه وينهي حياته فيقدم على ذلك استجابة لتلك الهلاوس. كما أن نسبة كبيرة من مرضى الفصام يفقدون القدرة في التكيف مع الأعراض التي قد تتم السيطرة على العديد منها بمساعدة المختصين في مجال الصحة النفسية .
3 ـ التهور والاندفاع: غالبًا ما يكون التهور من أهم أسباب الانتحار لدي مدمني الكحول والمخدرات؛ خاصة عندما يكونون في حالة سُكرٍ شديد قد تدفعهم إلى محاولة إنهاء حياتهم دون تخطيط مسبق. وعادة ما يشعر الفرد بالندم بمجرد أن يهدأ ويفيق من سُكره، لكن لا يمكن التنبؤ بما إذا كان سيحاول الانتحار مرة أخرى أم لا فور عودته إلى تناول تلك المواد. ويقدر علماء النفس أن احتمالية أن يقدم الفرد على الانتحار يزيد مع كل محاولة، حتى ولو كانت بسبب التهور والاندفاع.
4 ـ محاولة الاستغاثة وطلب المساعدة: في بعض الأحيان يقدم الفرد على محاولة الانتحار ليخبر من حوله بحاجته للدعم النفسي، وقد يكون الهدف تهديد أو إخافة شخصٍ ما تسبب في الأذى له. وقد يقوم الفرد باختيار طرقٍ لا يتوقع أن تسبب الوفاة، لكن حساباته قد تكون خاطئةً مما يؤدي إلى نتائج مأساوية. ومن الأمثلة الأكثر شيوعا التي غالبا ما نصادفها في أقسام الطوارئ وعيادات الطب النفسي أن تقدم فتاةٍ مُراهقة بعد مشادة كلامية مع الأخوة أو أحد الأبوين، على ابتلاع عدد كبير من الأدوية، دون أن تعلم أن الجرعات الكبيرة من هذا الدواء تسبب ضررا في الكبد يتعذر علاجه.
5 ـ الرغبة في الموت بسبب مرض مزمن: ونجد ذلك لدى المرضى الذين يعانون من مرضٍ مزمن لا يرجى شفاؤه مثل بعض حالات الخرف والشلل الرباعي مثل الذي يحدث نتيجة للحوادث المرورية ويكون فيه المريض بدرجة عالية من الوعي فينتابه الإحباط بسبب الإعاقة التي تجعله يعتمد على الآخرين في كل المهام اليومية لحياته. ولا يشترط أن يعاني هؤلاء المرضى من الاكتئاب، أو أي مرض نفسي، فهم يعتقدون أنهم يحاولون السيطرة على مصائرهم، وتخفيف معاناتهم، أو أن يكون إقدامهم على الانتحار كوسيلة لاستعجال الموت .
6ـ العوامل الاجتماعية: وتشمل ارتفاع المستوى المعيشي لمعظم سكان هذه الدول وخاصة الغربية، وتحول الإنسان إلى ترس في آلة كبيرة تعمل طوال الساعة لجمع المال من أجل الحصول على المزيد من المواد الاستهلاكية أو تأمين مستقبله لغياب مبدأ التكافل الاجتماعي في العديد من المجتمعات الحديثة. كما أن التفكك الأسري وارتفاع نسبة الطلاق يقلل من ترابط الأسرة واحتمال أن يقوم كل فرد بتوفير الدعم النفسي أو المادي للآخرين. بالإضافة إلى غياب الوازع الديني والإيمان بالقضاء والقدر الذي يمنح الفرد القدرة على تقبل الحياة بحلوها ومرها واستشعار قضاء الله وقدره في كل ما يحدث له، والإيمان بأن ما يصيبك لم يكن ليخطئك. جميع هذه المبادئ تكاد تكون شبه معدومة خاصة بين فئة الشباب في العديد من المجتمعات الغربية. ولا ننسى دور الوحدة والعزلة الاجتماعية التي بلغت أرقاما كبيرة حسب آخر الإحصائيات التي أجريت في المملكة المتحدة وأظهرت أن كبارالسن هم أغلب الضحايا.
هل يمكننا الوقاية من الانتحار؟
أصدرت منظمة الصحة العالميه مؤخرا تقريرا بعنوان «الوقاية من الانتحار ضرورة عالمية». يهدف التقرير إلى زيادة الوعي حول خطورة ظاهرة الانتحار ومحاولات الانتحار، وإعطاء قضية الوقاية من الانتحار أولوية أكبر على الصعيد العالمي. كما يهدف التقرير إلى تشجيع ودعم البلدان على إعداد أو تعزيز استراتيجيات شاملة للوقاية من الانتحار تشمل نشر التوعية الصحية عن والانتحار وأسبابه ومحاربة وصمة العار المرتبطة بالمرض النفسي التي تعتبر من المعوقات الأساسية التي تمنع المريض من طلب المساعدة من المختصين. إلى جانب برامج تأهيل العاملين في قطاع الصحة النفسية عبر برامج تدريبية لتقييم الأفكار الانتحارية وإعداد خطط علاجية ناجحة. كما يساهم تقليل توفر المواد التي قد تستخدم في الانتحار مثل التقليل من توفر الأسلحة النارية المستخدمة في الانتحار، والحد من إمكانية الحصول على المبيدات الحشرية والأسلحة النارية أو وضع الحواجز على الجسور. ولا يفوتنا دور البحث العلمي في فهم ظاهرة الانتحار في المجتمعات العربية ومناقشة الطرق العلمية المناسبة للوقاية منه.
حفظ الله الجميع من كل سوء.