مقالات
في انتظار ”عزرائيل “!
عبدالرزاق الربيعي
ذات يوم، وردني اتّصال من صديق من أصدقاء الطفولة، بعد أربعين سنة من آخر لقاء جمعنا بعد تخرّجنا من المدرسة الابتدائيّة، وقد مثّل ذلك الاتّصال فرحة غامرة، كونه جاء من حدائق الماضي الجميل، لكنّ هذه الفرحة بدأت بالتلاشي، شيئا، فشيئا، حين سألته عن عمله؟ فأجابني، بثقة عالية، وارتياح شديد: «لقد أنهيت دوري في الحياة، وارتحت» فطلبت منه توضيح ذلك، فأجاب «الأولاد كبروا، وتزوّجوا، وخلّفوا، وآن الأوان لأتمتّع بقسط من الراحة،متفرّغا لحياتي الخاصّة». مصدر الصدمة، إنّني أحسست، لحظتها، بالشيخوخة تتسلّل إلى روحي، فهذا واحد من أصدقاء الطفولة، يرى إنّه أدّى رسالته، بشكل كامل، وركن إلى الدعة،لائذا بظلّ أحفاده، في الوقت الذي انخرطت به في عمل جديد.
لكن سرعان ما استعدت توازني النفسي، حين استرجعت بيت المتنبي:
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
فالدخول في عمل جديد بما يتناسب مع المرحلة العمريّة ضرورة لتغيير نمط الحياة المهنيّة، والاستفادة من الخبرة، والعلاقات في العمل الجديد، وبناء علاقات جديدة، من شأنها أن تفتح أفقا جديدا، في العمل، والحياة، والتفكير.
وبذلك يمكن الخروج من الدائرة الضيّقة التي وضع صاحبي بها سنوات عمره، مرتديا ثوب القناعة، ناهلا من كنزها الذي لا يفنى!!
ناسيا إنّ هذا الثوب سيبلى، حتما، بعد سنوات قليلة، ليجد إنّه محكوم بتلك الدائرة التي خروجه منها يعني دخوله في دائرة أضيق، حين يهال عليه تراب النسيان بعد أن كان منتظرا «عزرائيل» ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
لقد حثّ ديننا على اغتنام فرص الحياة، حتى آخر رمق، وجاء في الحديث الشريف «إن قامت الساعة، وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها» وقد روى الإمام البخاري عن الحارث بن لقيط قال: كان الرجل منا تنتج فرسه فينحرها فيقول: أنا أعيش حتى أركب هذه؟ فجاءنا كتاب عمر: أن أصلحوا ما رزقكم الله، فإن في الأمر تنفسا»
فحامل الرسالة «محكوم بالأمل» كما قال الراحل سعد الله ونّوس، ولابدّ أن يكون هذا الأمل محرّكا لنا جميعا ،ونحن ندبّ في دروب الحياة.
إنّ الانكفاء على الذات، يبدأ من الفرد لينتهي بانكفاء حضاري، كون الفرد جزءا من منظومة مجتمعيّة كاملة، وعلينا الّا ننسى إنّ العالم في حالة تقدّم متسارع، وكل شيء في حركة مستمرة، وتغيّر حسب مقولة «هيراقليطس» الخالدة «إنّك لاتنزل في النهر الواحد الجاري مرّتين، فهناك مياه تسير فيه باستمرار» ففي كلّ يوم تضاف معلومات جديدة إلى التراكم المعرفي، تتمثّل في اكتشافات، وابتكارات، واختراعات، فالتوقّف عند نقطة معيّنة جمود ،وتكلّس. وتشير الاحصاءات إنّ 10 آلاف معلومة على الأقل تضاف يوميا إلى هذا التراكم المعرفي، وفي خضمّ ذلك يمكننا أن نتساءل: هل إنّ مواردنا البشريّة في التخصصات المعرفيّة (الطب،الصيدلة، الفيزياء، الكيمياء ..الخ ) تواكب التسارع المعرفي الذي يحصل في العالم؟
بالطبع، الإجابة سلبيّة، بدليل جلوسنا آخر الركب الحضاري.
إن ضعف مهارات العاملين لدينا، يعود لعدم الاطلاع، والانقطاع، وبهذا الصدد أذكر صديقا مهندسا كان يدرس في الجامعة التكنولوجية ببغداد، خلال الثمانينيات، وما إن تخرّج منها، حتى بدأ التراسل مع شركات مصنّعة لمكائن تدرّب عليها خلال دراسته، وحين سألته عن ذلك أجاب «إنّ هذه الشركات تعمل على تطوير هذه المكائن، باستمرار، ولكي أواكب التطويرات الحاصلة على هذه المكائن، فلابد أن أتواصل معها لمعرفة المستجدّات»
وبعد سنوات، حين غادر العراق، وجد نفسه يعمل على تلك المكائن ليس كما درسها، بل كما ظهرت عليه من تحديثات طالتها، فنجح في عمله، وارتقى، حتى ساهم في تأسيس شركة في لندن، ليكون نموذجا ايجابيّا يجعلني أشعر بالفخر، والزهو، ليطرد الإحساس بالاحباط الذي خلّفه صديق طفولتي الذي وضع نفسه في دائرة مغلقة، وأقفلها عليها!