مقالات
عن العماء
نبيل سليمان
منذ شهور يشغلني (العماء), وما ذلك, ببساطة, إلا لأننا فيما أحسب مبتلون بعماء عظيم, بأيدينا أولاً وأخيراً, وأضيف: بأيدي غيرنا, كي لا يزعل مني أصحاب نظرية المؤامرة وأصحاب نظرية الذات البريئة, بل والمعصومة.
من هذا الاشتغال ما يتعلق بحكيم بني عثمان (المقنّع) الذي ذكره البلاذري في أخبار بني خرسان في كتابه (تاريخ الخلفاء). والمقنّع هذا هو (نبي العميان) صاحب الكتاب المجهول (الوردة الخفية), وثمة من يقول (الوردة المظلمة). كما ذكر آخرون كتابًا مجهولًا آخر هو (محق الوردة) يدحض كتاب المقنّع. فمن عنده خبر يا أهل النخوة عن أحد هذين الكتابين, ليته يجود عليّ بما عنده . ومن جميل هذا الاشتغال بـ (العماء) ما وقعت عليه في كتاب (الرسام تحت المجلى) لأفونسو كروش, ومنه أن الظلمة تعمينا, كذلك الضوء, ومنه هذا السؤال المشرع على أية قراءة وعلى أي جواب: «من يبدع تاريخًا لهذه العيون المطفأة». ومن المهم لهذا الكتاب ما يحفل به من رسوم للعين, تفجر الكتابة التي تسبق أو تلي الرسم, فإذا للعين أصابع بدل الأهداب, وإذا للموت عيون, والليل ليس ليلاً إلا لأننا نغمض عيوننا, وليس لأن الأرض تدور.
وفي هذا السياق عدت إلى كتاب هاجع في مكتبتي منذ خمس عشرة سنة, أهداني إياه صاحبه الصديق الراحل الروائي سليمان فياض (1929-2015), والكتاب هو (معجم الإبصار والمبصرات- 2003). ومن ذخائر هذا المعجم أن عيني حبيبتك ترنّقان ترنيقًا, والترنيق هو إخفاء النظر, أما المرامقة فهي النظر بمؤخرة العين. ومن المعجم أيضاً أن تنظر إليك حبيبتك باسترابة, ثم مسارقة, فتحار بين الإتارة, والمخانة, والتزليق. ويجتاحك إحساس عامر بالملاشاة إذ ترميك عينا حبيبتك بالإشافة, وباللقلقة, والمباصرة, والحملقة. ويشرح معجم سليمان فياض أن (الإشافة) هي النظر من علٍ, و(الإتارة) هي معاودة النظر, و(المخانة) هي النظر بارتياب, و(التزليق) هو النظر بسخط, و(اللقلقة) هي إدارة النظر, و(المباصرة) هي النظر بعيداً. أما (الحملقة) فهل تحتاج إلى شرح؟
بصراحة, صادفني في اشتغالي على (العماء) ما لا أفهمه, فوضعته جانبًا انتظارًا إلى أن أبحث وأنشد عونًا ممن هم أقدر مني. ومن ذلك ما جاء في كتاب بول دي مان (العمى والبصيرة), من السؤال عما هي المفارقة التي يحقق بها الكاتب بصيرةً من خلال نوع من العمى؟ كذلك هو السؤال عما إذا كان في النص (نقطة العمى) التي تنظم فضاء رؤية النص, وهي النقطة التي يحدد بول دي مان أنها الموقع الشمسي الذي يعمّي على الأجرام السماوية حوله, كما ينظمها.
تشكل المعاجم الركن المكين في مكتبتي, أعود إليها كلما راودت رواية أو بحثاً, وربما مقالة. وقد وجدت في (تاج العروس من جواهر القاموس) للمرتضى الزبيدي (1732-1790) مما يتصل بالعماء, أن (الأذريطوس) دواء ينفع لظلمة البصر. ولأنني لم أفهم, طلبت النجدة من صديقي الطبيب المختص بالعيون, فسخر مني, فرميته رشًا ودراكًا بطلقات الزبيدي, مثل الوعوف, والوعف, والطشاش, والدمش, والطغمشة, وكلها تعني: ضعف البصر. كذلك رميت صاحبي المتبحر في العلم الحديث بالرسع, وهو فساد في الأجفان, وبالبجة, وهي البثر في العين, وبالدوش, وهو ظلمة البصر وضيق العين, وبالغضاب, وهو القذى في العين, ثم ختمت بالقاضية, وهي: الزرق, أي العمى. ولكي أفارقكم بمودة, أمسح عما قد يكون فيما سبق من غلظة وجفاء, فأذكّر بالفاترات /الناعسات/ القاتلات من العيون التي قال فيها أحمد شوقي أيضاً:
«الشارعات الهدبَ أمثال القنا / يحيي الطعينَ بنظرةٍ ويميته»