الثقافي
سند المحرزي .. من موظف بسيط إلى باحث في التاريخ والأنساب
دلف بابَ متحف بيت الغشام برفقة كوكبة من الكتاب والباحثين، جاءوا في زيارةً إلى ولاية وادي المعاول ضمن تجوالهم بمختلف ولايات السلطنة استطلاعا للتاريخ والجغرافيا وبحثا عن أثر ضمه حجر أو خط قديم يلتمسونه في جدران الحاراتِ القديمةِ وأبوابها العتيقة. كانت جولتهم مثرية جداً وحواراتهم شائقة، واستمرت جولتهم أكثر من ساعتين بين أركان المتحف، وفي كل غرفةٍ يتحدثون ويناقشون فصولاً من أبواب العلم والمعرفة لاسيما تاريخ عمان وعلم الأنساب والمؤلفات العمانية.
سعيد بن خلفان النعماني
بين حديث وآخر تتجه انظارهم إلى شاب ثلاثيني يطيل الاستماع ليطرح عليهم سؤالا آخر فاتحا فصلا جديدا من الحوار التاريخي لافتا إلى نقاط محددة تدل على سعة اطلاعه والمساحة والأفق الذي تسبح فيه مخيلته وكأنه يستدعي تلك الشخصيات كما هي لنراها رأي العين ونحن في وقفة واحدة .
بعد تناول القهوة في الركن التجاري بالمتحف تقدم إليَّ نفس الشاب مصافحا ومناشدا عن العلوم والأخبار، وقال كـأنك لم تعرفني. تفرست في وجهه طويلا ولم تساعدني الذاكرة بشخصه أو باسمه. ربما لكثرة من أعرف ومن ألتقي بهم خلال العقود الخمسة التي مرت من حياتي بين دراسةٍ ووظيفة، وبين صحافةٍ وسفر.
قلت له: اعذرني جدا، لم أتذكرك، قال: ولكني أعرفك جيدا، وذكر اسمي كاملاً، ألم تكن تعمل بوظيفة كذا بوزارة كذا؟ وكنت تتردد على مكتبة تلك الوزارة آخذاً لكتاب أو إرجاعا لآخر.
قلت له: نعم، ذلك أنا. فقال: لقد عملت فترة من الزمن بنفس الوزارة، كنت على الطاولة المقابلة لمكتبك، فأنا موظف الأمن الذي كنت تتحدث إليه باستمرار ويناشدك عن العلوم والأخبار، كنت ودودا مع الجميع، وأتذكر تلك الملفات التي تحتضنها حضورا لاجتماع أو عودة منه، ومع ذلك كنت تقف وتسلم على موظفي الأمن ثم تستأذن مواصلا طريقك، فكنت محل إعجاب وتقدير من الجميع.
قلت له: أخجلتني بهذا الكلام. عموماً، ماذا بعد ذلك؟ ربما لم أتذكرك الآن، فأنت بهيئة أخرى، لحية جميلة مهذبة وعمامة بيضاء وعصا، ربما كنت بهيئة أخرى!
قال: بالفعل، فظروف العمل كانت مختلفة جدا، ومع ذلك فقد كنت وقتها أقتني وأقرأ الكثير من كتب التاريخ والأنساب، فعند انتهاء الدوام كنت ألج غرفة موظفي الأمن بالوزارة قارئا ومذاكرا ومواصلا لأبواب وفصول الكتب التي وقفت عندها.
بَعد، أبعد من ذلك
انتهى ذلك اللقاء بتعارفٍ سريع، وضربت مع سند موعداً لزيارته في قريته الريفية (بَعد)، فقد كنت أسمع بهذه القرية ولكن لم أزرها. انطلقت إليه وكان وصفه بأن (بَعد) على المنعطف في طريقنا إلى دماء والطائيين، ولعدم وجود اللوحات الإرشادية بسبب الأعمال الإنشائية لشارع الشرقية دخلنا ولاية دماء والطائيين من إحدى تفرعات الطرق المؤدية إليها من إبراء، لنقضي أكثر من 3 ساعات بين الجبال والأودية والمرتفعات والمنخفضات والأرياف الجميلة والنباتات البرية التي رافتنا طوال تلك الجولة لتظهر لنا قرية بَعد قريبا من شارع الشرقية مرة أخرى. فالطريق الذي يسلكه الزائر لدماء والطائيين شبه دائري ولم نشاهد عبر خرائط جوجل أي طرق فرعية توصلنا إلى القرى المقابلة عبر الجبال فكان لزاما أن نكمل الجولة في هذه الولاية حتى نتمكن من العودة إلى الشارع العام .
وصلنا (بَعد) وبيت سند الذي غطى أرضيةَ مجلسهِ وجدرانه بالكتب والأوراق والوثائق التي أوصدها بكتب أخرى حتى لا تتحرك من مكانها، طقم الجلوس هو أيضا تزاحمت على فرشته الوثيرة عدد من الكتاب أغلبها مفتوح فوق بعضها انتظاراً لبحث متقن بين سطورها. افسح لي مكانا بين تلك الكتب والأوراق لنبدأ رحلة الحديث معه ومسيرته في العلم والتاريخ والانساب، فبدأ بنسبه الذي أوصلنا الى الجد الثاني عشر ضمن سلسلة متصلة كما هو حال كتب الأنساب ،فقال: أنا سند بن حمد بن محمد بن سعيد بن عبد الله بن محمد بن مسعود بن ربيعه بن عدي بن ربيعة بن محمد بن حزام المحرزي، أعمل الآن إماماً وخطيباً بجامع (بَعد) من أعمال ولاية المضيبي.
سند .. نقطة البداية.
قال سند: لقد عشتُ ظروفاً صعبة أجبرتني على ترك الدراسة والبحث عن الوظيفة فعملت في إحدى شركات القطاع الخاص وعمري لا يتجاوز 16 عاما، وبعدها حارس أمن في خدمات الأمن والسلامة، فكانت وظيفة تستدعي اليقظة والانتباه والدقة والانضباط، بل والبحث والمراقبة للثغرات الأمنية التي تكون عادة سببا في حدوث الأخطاء والتجاوزات، فكنت مجتهدا في أداء المهمة، وفي نفس الوقت لا يغادر الكتاب يدي. فعندما ينتهي وقت العمل أعود لغرفة الحراسة محلقا في آفاق كتب التاريخ والسير.
ثم عملت موظفا مدنيا لمدة سنتين بالسلك العسكري، وكانت الفرصة صعبة لمواصلة التعليم ومع ذلك لم أنثنِ عن الهدف الذي أطمح اليه، واقتنصت الفرص حتى أكملت الثانوية العامة وحفظت 19 جزءاً من القرآن الكريم بالإضافة إلى حفظ الكثير من الأحاديث الواردة بمسند الإمام الربيع بن حبيب وقرأت كتاب المعتمد للمعتصم المعولي ومنظومة كشف الحقيقة وغاية المراد للإمام السالمي التي حفظتها وشرحتها للطلاب بالمركز الصيفي وقرأت كتاب جوهر النظام وتحفة الأعيان والحجج المقنعة في صلاة الجمعة وديوان أبي مسلم البهلاني الذي أحرص على قراءة أشعاره ربما بشكل يومي لعذوبة شعره ولمعانيه المحفزة. وقرأت كتاب نثار الجوهر ومؤلفات الشيخ سالم بن حمود السيابي مثل إسعاف الأعيان، والعنوان من تاريخ عمان، وعمان عبر التاريخ وسيرة الشيخ سالم بن حمود السيابي .
وحانت الفرصةُ بعدها للالتحاق بكلية العلوم الشرعية من خلال التعليم عن بُعد، وأنهيت شهادة البكالوريوس بتقدير امتياز. وكانت دراسة رائعة لم أعتمد على مقرراتها فقط بل قرأت أكثر من 250 كتابا تزامنا مع تلك الدراسة في مختلف فنون العلم والمعرفة مع التركيز على الجانب التاريخي بالإضافة إلى الاهتمام اليومي بالفقه ومبادئ العلوم الشرعية وملازمة المشائخ في المحاضرات وسلاسل الدروس التي تعقد في الجوامع .
وقال: خلال تلك الفترة بُنيَ جامعٌ في قريتنا (بَعد) وطلب مني عدد من الأهالي أن أكون إماما فيه، فقدمت استقالتي والتحقت بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية وعينت إماما في ذلك المسجد، ومازلت فيه حتى الآن.
كفاح مستمر
وتحدث سند عن معاناته وصبره في طلب العلم فقال: طلب العلم وفهم العلوم ليس بالضرورة أن يتوَّج بالشهادة، فيجب أن يُطلب العلم لذاته وقربة إلى اللهِ تعالى، فمن ذلك كنت كلما أقصد شيخاً معبرا لأتتلمذ على يديه أجد الكثير منهم مشغولا نظرا لارتباطهم بالوظائف وأمور الحياة الأخرى، والبعض يتعلل بضيق الوقت ولا يملك ما يعطيني من وقته واستمر الحال كذلك. فلم أيأس فبقيت في المسجد أحفظ كتاب الله عز وجل فقد حفظت منه تسعة عشر جزءاً وكنت أتردد على المساجد القريبة لحضور المحاضرات وسلسلة الدروس التعليمية وحلقات الذكر كما أرتاد المكتبات لشراء أشرطة المحاضرات والدروس المفرغة في الأشرطة.
وبمرور الأيام وانقضاء الأعوام وفقني الله بالتعرف على الشيخ عماد بن سعيد بن ابراهيم الرواحي المحرمي فاستقبلني طالبا وتلميذا عنده فلازمته قرابة العامين وفي الوقت ذاته قصدت الأستاذ النحوي سعيد بن ناصر بن علي المحرزي فلازمته سنة كاملة، والذي بحق أقولها، إنه اهتم بي وعلمني أصعب مادة أواجهها في تلك الفترة وكان صبورا. كما تتلمذت على يد الشيخ الشاعر هلال بن سالم بن حمود السيابي الذي أخذ بيدي وأطلعني على الكثير من مؤلفات المرحوم الشيخ سالم بن حمود حيث ساهمت مجالسته في تذليل الصعاب في البحوث والدراسات التي أجريها في تلك المؤلفات.
وقال: لقد كانت دراستي للعلوم الشرعية رافدا مهمّا لاستيعاب بقية ابواب العلم، وكأنها المفتاح إلى البحث الحقيقي في مسالك العلم، فقد سهلت علي استكمال الدراسات العليا، فأنا الآن في الفصل الأخير بجامعة نزوى لدراسة الماجستير تخصص الأدب العربي القديم، وحتى منهج الماجستير نفسه لم يمنعني من البحث خارج الإطارالدراسي، فما زلت ملازما للشيخ الفقيه سعيد بن ناصر المدادي الناعبي القاروتي أستقي منه علوم الفقه والتاريخ الذي قربني منه فكنت أصحبه في أسفاره وزياراته حين يلقي المحاضرات والدروس والخطب.
بدأ بالتأليف وعينُه على الدكتوراه
وتحدث سند المحرزي عن اهتماماته الأخرى فقال: البحث العلمي قادني للاهتمام بالمخطوطات والوثائق والكتب القديمة، بل حتى المقتنيات ذات الصبغة التاريخية كالسيوف والأسلحة التقليدية والأواني الفخارية والنحاسية والأحجار القديمة والكريمة ومكتبتي المنزلية بها ما يزيد على 500 كتاب، وهي منتقاة بشكل دقيق حتى تخدم بحثي في التاريخ والأنساب، كما أن عيني الان على شهادة الدكتوراه لتكون محصلة لبحثي وقراءاتي في هذه العلوم ، كما أنني بدأت الكتابة على شكل مقالات، ومما كتبته قراءة حول مخطوط (ثالث القمرين في الأدب والدين) للعلامة الشيخ سالم بن حمود السيابي ومقال بعنوان ( بنوحسين أسرة علمية بالمضيبي)، ومقال حول المحافظة على ملامح التاريخ القديم الكتابات النقوش الرسومات وتحقيق وتحليل رسالة وثيقة ملك قطر بطلب مؤلف يجمع فيه أنساب أهل عمان. وتحقيق أنساب بعض القبائل حال التقدم إلي بالسؤال ولم أنشرها، فقط أجيب على السائل بكتابة يحتفظ بها. كما كتبت نعيا لبعض الأحبة على فراقهم بالموت.
وقال: ومن المؤلفات المخطوطة التي أنهيتها بحث حول سيرة العلامة ابن شيخان أسميته (مطالع السُّعد بسيرة ابن شيخان ببَعد) ، وهنالك بحث لم أكمله بعنوان (إتحاف الجليس بسيرة الشيخ محمد بن أنيس) وكتاب آخر بعنوان (النظرة المتأملة في كتابات وتاريخيات أبي حمد المكتملة) وهو عبارة عن مقالات متفرقة ومقالات وتاريخيات تتبع أولاد محرز ومآثرهم ودورهم في التاريخ .
وأضاف: لقد وفقني الله تعالى لإنهاء ثلاثة مؤلفات وعسى أن تجد طريقها إلى الطباعة وهي: الكتابات والرسومات الأثرية في المنطقة الشرقية بالاشتراك مع الباحث النسابة محمد راشد الرزيقي وكتاب حول سيرة الشيخ خلفان بن جميل السيابي رحمه الله تعالى، وهنالك مشاريع كتب أعمل عليها وهي: كتاب تراجم علماء وأهل العلم بالمضيبي والتعليق على كتاب الأنساب والعمل في سيرة الشيخ سالم بن حمود السيابي رحمه الله .
وهنالك مشاريع كتب أجلتها لعدم اكتمال مادتها العلمية وهي سيرة الشيخ العلامة حمد بن عبيد السليمي وتحقيق كتاب ثالث القمرين للعلامة سالم بن حمود السيابي بالاشتراك مع موسى البهلاني ، وكتاب جواهر الذهب في إتحاف الخطيب في مسائل الخطب، ومؤلف تاريخي حول اتفاقية السيب .
ولي مشاركات علمية منها: ورقة عمل في أمسية العلامة حمد بن عبيد وورقة عمل في ندوة سمد الشأن عن علماء نيابة سمد بالإضافة إلى التدريس في المراكز الصيفية لمواد العقيدة والفقه.